‫الرئيسية‬ الأولى حين تكلّم المال وأخضع الإعلام … القصة الكاملة لسقوط إمبراطورية “خفافيش الإشهار”
الأولى - الحدث - الوطني - ‫‫‫‏‫6 أيام مضت‬

حين تكلّم المال وأخضع الإعلام … القصة الكاملة لسقوط إمبراطورية “خفافيش الإشهار”

حين تكلّم المال وأخضع الإعلام ... القصة الكاملة لسقوط إمبراطورية "خفافيش الإشهار"
تتحرّك الملفات في أدراج العدالة الجزائرية، وتخرج الوثائق من ظلال المكاتب إلى ضوء المحاكم. تتكشّف العقود واحدة تلو الأخرى، وتظهر الأسماء التي ظلّت لعقود تتوارى خلف أختام “الإشهار العمومي”. تهتزّ الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، المعروفة اختصارًا بـ”أناب”، وهي المؤسسة التي أُنشئت سنة 1967 لتكون الذراع الاقتصادية للدولة في مجال الإعلانات، بعدما وجدت نفسها في قلب واحدة من أوسع التحقيقات المالية التي عرفها القطاع الإعلامي الجزائري منذ الاستقلال.

فقد كشفت التحقيقات أن هذه الوكالة لم تكن مجرد جهاز إداري، بل تحوّلت إلى مركز لتوزيع الامتيازات مقابل الولاء أو الصمت، تتحكم في مصير الصحف عبر منح أو حجب الإشهار العمومي، الذي يمثل شريان الحياة للمؤسسات الإعلامية، سواء كانت عمومية أو خاصة. وقد وصفت جريدة الخبر في عددها الصادر يوم 4 جوان 2025 الوكالة بأنها “أداة نفوذ تتجاوز حدود الإعلان إلى صناعة الرأي”، بعدما كشفت التحقيقات عن تحويلات مالية ضخمة خارج الأطر القانونية.

بدأت ملامح التحقيق تظهر بوضوح سنة 2020، حين شرعت وحدات الدرك الوطني وهيئة الرقابة العامة للمالية في فحص عقود أبرمتها الوكالة مع مؤسسات إعلامية خاصة. وتبيّن من الوثائق أن “أناب” وقّعت صفقات بمبالغ كبيرة دون المرور عبر المناقصات القانونية، وأن بعض المؤسسات المستفيدة لم تكن تملك مؤهلات مهنية أو حتى وجودًا فعليًا في السوق. وأشارت وكالة الأنباء الجزائرية إلى أن عمليات شراء الأسهم في بعض القنوات والصحف أُجريت بمبالغ تضخّمت أضعاف قيمتها الحقيقية، لتُعاد لاحقًا إلى السوق بخسائر جسيمة، ما اعتبره المحققون أسلوبًا ممنهجًا لتحويل الأموال العمومية تحت غطاء “الاستثمار الإعلامي”.

في مارس 2023، فتح القطب الجزائي الاقتصادي والمالي أول ملف في القضية تحت اسم “أناب 1”، بعد أن أصدر أوامر بإيداع عدد من المديرين العامين السابقين الحبس المؤقت بتهم تبديد المال العام وإبرام صفقات مخالفة للتشريع. وأظهرت تقارير وزارة المالية أن الرقابة الداخلية كانت شكلية، وأن كثيرًا من الصفقات تمّت بأوامر شفهية من مستويات عليا دون المرور عبر المجالس الإدارية أو اللجان التقنية. ومع نهاية 2023، برز ما سُمّي إعلاميًا بـ“أناب 2”، وهو الجزء الأكثر تعقيدًا من القضية، حيث كشفت التحقيقات عن شبكة واسعة تضم مسؤولين في الوكالة ووزراء سابقين وشخصيات نافذة في الإعلام والسياسة. وضمّت القضية ثلاثة عشر متهمًا، من بينهم وزيرا الاتصال السابقان حميد قرين وجمال كعوان، والمدير العام الأسبق أمين شيكر، وعدد من الإطارات التنفيذية، بتهم تبديد المال العام ومنح امتيازات غير مبرّرة واستغلال الوظيفة العمومية وتبييض الأموال، وفق ما أوردته تقارير صحفية عن المحاكمة التي افتُتحت يوم 19 أوت 2025 بمحكمة سيدي أمحمد.

وفي الرابع من جوان 2025، أصدر القطب الجزائي الاقتصادي والمالي بمحكمة سيدي أمحمد أحكامًا وُصفت بالثقيلة. فقد أدان القضاء الوزير والسفير السابق عبد القادر خمري، الذي شغل أيضًا منصب مدير عام للوكالة، بالسجن ثماني سنوات نافذة وغرامة مالية قدرها مليون دينار جزائري، بعد إدانته بتبديد المال العام واستغلال النفوذ ومنح امتيازات غير قانونية. وأوضحت جريدة الخبر أن المحكمة أدانت كذلك المدير العام الأسبق أحمد بوسنة بسنتين سجنًا نافذة وغرامة قدرها 500 ألف دينار، بينما صدرت أحكام متفاوتة بالسجن بين عامين وخمس سنوات ضد مسؤولين آخرين في “أناب” ووكالة الترفيه الوطنية (أنالج). وذكرت تقارير صحفية أن المحكمة اعتبرت مشروع “إعادة التأهيل الاستراتيجي” الذي أطلقه خمري غطاءً لإنشاء فروع وهمية تمّ ضخّ أموال عمومية فيها دون مردود فعلي، في حين أشار موقع أوراس إلى أن بعض تلك الفروع كانت تُستخدم لتوجيه الإشهار نحو مؤسسات إعلامية محددة وفق اعتبارات سياسية وشخصية.

أما موقع النهار أونلاين فقد نشر أن فكرة “الاستثمار في الإعلام الوطني” كانت ذريعة لتبرير عمليات مالية مشبوهة، منها صفقة شراء أسهم شركة “ستيديا” سنة 2015 بـ800 مليون سنتيم ثم بيعها لاحقًا بـ25 مليون سنتيم فقط، ما مثّل خسارة ضخمة للمال العمومي. ووفقًا لتقرير نشرته جريدة الشروق أونلاين بتاريخ 27 ماي 2024، استنادًا إلى معطيات رسمية لهيئات الرقابة المالية، بلغ حجم الإنفاق على الإشهار العمومي بين عامي 2016 و2020 نحو 40 مليار دينار جزائري، أي ما يعادل 300 مليون دولار أمريكي تقريبًا. وتشير الأرقام التي أوردتها أوراس إلى أن أكثر من 80 بالمئة من تلك الميزانية كانت تُمنح لخمس صحف كبرى فقط، بينما حُرمت عشرات العناوين الصغيرة من أي دعم بسبب خطها التحريري المستقل أو بعدها عن دوائر القرار.

وفي تقرير لوكالة الأنباء الجزائرية بتاريخ أوت 2025، وُصفت شبكة الفساد داخل “أناب” بأنها “منظومة تبديد ذكي”، إذ كانت العمليات تُدار ضمن أطر قانونية ظاهرية لكنها في الواقع تُستغل للتحايل على المال العام عبر صفقات المناولة والوساطة في الإعلانات. وكشفت مواقع إخبارية أن التحقيقات أثبتت وجود وسطاء يتقاضون عمولات مقابل تمرير عقود لمؤسسات إعلامية خاصة مقربة من مسؤولين نافذين في الدولة، بينما أكد بعض مديري الفروع خلال جلسات التحقيق أنهم تلقوا أوامر بتخصيص مساحات إشهارية ضخمة لمؤسسات بعينها دون مبررات مهنية أو حتى ملفات تقنية مكتوبة. وقال أحد المديرين أمام قاضي التحقيق إن “الوكالة كانت تتصرف كما لو كانت دولة داخل الدولة، تطبّق قوانينها الخاصة وتوزع الأموال كما تشاء”.

وتشير التقارير الصادرة عن الإذاعة الجزائرية في 6 مارس 2024 إلى أن نتائج التحقيقات قد تمهّد لإعادة النظر في نظام توزيع الإشهار العمومي، بعد أن تأكد أن أكثر من 80 بالمئة من الميزانية الإجمالية كانت تذهب إلى عناوين محدودة تدور في فلك النفوذ السياسي، بينما تعاني الصحف المستقلة من التهميش المالي الممنهج. كما نقلت وكالة الأنباء الجزائرية عن مصادر قضائية أن بعض الملفات المرتبطة بـ“أناب” لا تزال مفتوحة، وأن مراحل جديدة من التحقيق قد تكشف عن أسماء إضافية متورطة فيما وصفته بـ“إعادة تشكيل المشهد الإعلامي وفق المصالح الخاصة”.

وأظهرت صحيفة الخبر في تحليل لاحق أن قضية “أناب” لم تكن سوى مرآة لواقع العلاقة المعقدة بين المال والكلمة في الجزائر، حيث أصبح الإشهار العمومي أداة ضغط سياسية قبل أن يكون وسيلة دعم اقتصادي للصحافة. فالوكالة التي أُنشئت لتكون ذراعًا للدولة في توزيع الإعلان تحوّلت إلى أداة لتوجيه الخطاب الإعلامي، إذ تمكّنت من إخضاع عناوين كبرى لمعادلة “التمويل مقابل الولاء”، في حين اختفت أخرى من الساحة بعد حرمانها من الإشهار بسبب مواقفها المستقلة.

ورغم صرامة الأحكام الصادرة في جوان 2025، يرى متابعون أن القضية لا تمثل نهاية مرحلة بقدر ما تشكّل بداية مسار إصلاح شامل في منظومة الإعلام والإعلان. فالحكومة، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الجزائرية، تعمل على إعداد نظام جديد لتوزيع الإشهار العمومي يقوم على معايير الشفافية والعدالة والتوازن، يهدف إلى دعم المؤسسات الإعلامية على أساس الأداء والمهنية لا على أساس الولاءات. وهكذا، تبقى قضية “أناب” مرآةً صريحةً للكيفية التي اختلط فيها المال بالكلمة، والصفقة بالخبر، في مشهدٍ إعلامي ظلّ لسنوات يبحث عن توازنه بين الحرية والمسؤولية، وبين الشفافية والمصالح التي تتخفّى في الظل. إنها ليست فقط قصة مؤسسة تورّطت في الفساد، بل شهادة على مرحلةٍ كاملة كان فيها الإعلان أداةً للضغط والتوجيه بدل أن يكون وسيلةً لدعم الصحافة. غير أن مثل هذه الممارسات لم يعد لها مكان في الجزائر الجديدة التي يرسي دعائمها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، وفق ضوابط وطنية واضحة تقوم على العدل، والشفافية، وتكافؤ الفرص بين جميع وسائل الإعلام، في إطار احترام القانون وخدمة الصالح العام.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …