‫الرئيسية‬ الأولى .. دريانكور وأوهام الاستعمار
الأولى - الوطني - مقالات - 4 مايو، 2025

.. دريانكور وأوهام الاستعمار

.. دريانكور وأوهام الاستعمار
في مقاله المنشور بصحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، والذي جاء مقتطفًا من مؤلفه الجديد “فرنسا – الجزائر: العمى المزدوج”، يختار السفير الفرنسي الأسبق لدى الجزائر، كزافييه دريانكور، أن يحمّل الجزائر – مرة أخرى – وزرًا لمشكلة عميقة تعاني منها الجمهورية الفرنسية، أزمة هوية غير محسومة، وذاكرة استعمارية لم تُهضم بعد.

ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها دبلوماسيون أو سياسيون فرنسيون إلى مهاجمة الجزائر، كلما ضاقت بهم سبل تفسير التحولات العميقة التي تشهدها فرنسا من الداخل. لكنها هذه المرة تأتي في سياق بالغ الحساسية، صعود لافت لأقصى اليمين، انسداد أفق الاندماج، وخوف متصاعد من فقدان فرنسا لمكانتها على الساحة المتوسطية والإفريقية… وهي كلها تحولات تقابلها الجزائر بسيادة وهدوء وثقة، وهذا ما يزعج باريس.

فيما يرى دريانكور أن الجزائر “لم تكن الشريك الذي اختارته فرنسا في إيفيان”، نقرأ نحن هذه الجملة باعتراف لا واعٍ بأن فرنسا لم تتصالح يومًا مع فكرة أن الجزائر استقلت رغم إرادتها، وأن من وقّع اتفاقيات إيفيان لم يكن حليفًا بل طرفًا منتصرًا في حرب تحرير.

ومن هذا الإدراك ينبع سخط النخبة الفرنسية المتجذرة في ثقافة الدولة الاستعمارية. فهي لا تزال – حتى الآن – تنظر إلى الجزائر من زاوية استعمارية مقلوبة: إما بلد تابع ومطيع، أو بلد متمرّد يستحق العقاب الدبلوماسي والإعلامي.

يردد دريانكور مقولة نمطية تعيد إنتاج الرؤية الاستشراقية.. “الجيش يملك الجزائر”. لكن من يراقب الحياة السياسية الجزائرية خلال العقدين الأخيرين، يدرك أن المؤسسة العسكرية، رغم قوتها التاريخية، أصبحت جزءًا من منظومة مدنية دستورية متجددة، خصوصًا بعد حراك 22 فيفري 2019، الذي أعاد رسم ملامح العلاقة بين الدولة والشعب.

أما إذا أراد الفرنسيون الحديث عن “الجيوش التي تملك بلدانًا”، فعليهم النظر في تاريخهم القريب، حين كانت الجمهورية الخامسة تُدار عمليًا تحت ظلال الجنرال ديغول، أو حين شكّلت الرابطة الوطنية اليمينية المتطرفة – ذات الخلفية العسكرية – تهديدًا داخليًا على استقرار الدولة.

من يزعزع من؟

يروج دريانكور لنظرية وجود “شبكات جزائرية تعمل ضد فرنسا من الداخل”، وهي عبارة خطيرة في مدلولها، تُلبس الجزائريين في فرنسا عباءة “الطابور الخامس”، في إعادة تدوير صريحة لنزعة أمنية استشراقية.

لكن الواقع أن الجالية الجزائرية في فرنسا هي إحدى أكثر الجاليات اندماجًا – في التعليم، في الاقتصاد، في الصحة، وفي الثقافة – رغم كل العقبات البنيوية التي تضعها الجمهورية أمامها، من خلال قوانين، وإعلام، وخطاب سياسي متصاعد في عنصريته.

الجزائريون في فرنسا لا يهددون الجمهورية. بل هم – في كثير من الأحيان – ضحايا تحولها نحو اليمين المتطرف، وسوء إدارتها لماضيها الاستعماري.

الحقيقة التي تُقلق بعض النخب الفرنسية، أمثال دريانكور، أن الجزائر اليوم تمارس سيادتها دون عقد، وتُعيد صياغة علاقاتها الخارجية على أساس المصالح لا المجاملات. من ليبيا إلى مالي، ومن غزة إلى الصحراء الغربية، ومن المواقف في الأمم المتحدة إلى المشاريع الإفريقية المشتركة، تُثبت الجزائر أنها فاعل دولي مستقل، لا يبحث عن إذن من باريس، ولا يسعى إلى إثبات ذاته في عيون المستعمر السابق.

الجزائر لا تريد القطيعة مع فرنسا، لكنها أيضًا لم تعد تقبل بعلاقة غير متكافئة. وهذا بالضبط ما يُزعج من اعتادوا على علاقة الوصاية الثقافية والسياسية.

ما قاله دريانكور ليس تحليلًا استراتيجيًا، بل نَفَسٌ نوستالجي لفرنسا استعمارية لم تعد موجودة. والرد الحقيقي ليس فقط في فضح هذه الخطابات، بل في مواصلة الجزائر بناء نموذجها السيادي، وتحصين جاليتها في الخارج من التوظيف السياسي والإعلامي الممنهج.

فالجزائر ليست عبئًا على فرنسا. بل هي المرآة التي تعكس هشاشة الجمهورية حين تفقد ثقتها في ذاتها، وتبحث عن عدو خارجي بدل مواجهة تناقضاتها الداخلية.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

صناعة السيارات: الحكومة تشدد القواعد

أكد وزير الصناعة، يحيى بشير، اليوم الخميس، أن الجزائر دخلت مرحلة حاسمة في مسار إعادة بناء …