دولة المسؤولية تبدأ من هنا
يُحيل الرئيس عبد المجيد تبون، وفاءً بوعدٍ قطعه على نفسه، التقرير النهائي حول الأحداث المأساوية التي شهدها ملعب 5 جويلية إلى العدالة، بعد أن أمر سابقًا بفتح تحقيق معمّق وشامل، لتحديد المسؤوليات ومعاقبة كل من كان له يد فيما جرى. وما جرى لم يكن بالأمر الهين، بل فاجعة وطنية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، راح ضحيتها شباب في مقتبل العمر، أحدهم سقط داخل الملعب، وآخرون قضوا نحبهم خارجه، وسط فوضى واستهتار وتقصير يكشف إلى أي مدى وصل العبث في تسيير بعض القطاعات الحيوية.
تسلمت رئاسة الجمهورية التقرير، وسارعت إلى إحالته إلى الجهات القضائية، مع توجيه واضح، العدالة تأخذ مجراها، ويُحاسَب المسؤولون. هذه الخطوة ليست مجرد إجراء إداري أو تهدئة للرأي العام، بل رسالة صريحة بأن زمن الإفلات من العقاب قد ولّى، وأن الدولة، في ظل هذه القيادة، تتجه نحو عهد جديد عنوانه، لا أحد فوق القانون.
الرئيس تبون، بهذه الخطوة، لا يُطفئ فقط نارًا اشتعلت في قلوب العائلات المفجوعة، بل يُعيد شيئًا من الأمل في مؤسسات الدولة، ويمنح المواطن الجزائري إشارات قوية على أن صوته مسموع، وأن كرامته، إن انتُهكت، تجد من يدافع عنها، ولو بعد حين. وهو بذلك يُرسّخ مبدأ لطالما غاب عن المشهد السياسي، مبدأ المسؤولية السياسية والإدارية، وربط المنصب بالثمن، وربط القرار بالمحاسبة.
لطالما كان المنصب في الجزائر هدفًا يتهافت عليه الجميع، ممن هبّ ودبّ، دون معيار واضح للكفاءة أو للنزاهة، ودون خوف من العواقب، لأن التجربة التاريخية علّمت الناس أن الأخطاء تمرّ، والتقصير يُنسى، والتسيير السيئ يُكافأ. لكن حين تبدأ الدولة، من أعلى هرمها، بإرسال إشارات بأن لكل منصب ثمنًا، وأن كل خطأ يُحاسَب، فإن ميزان اللعبة سيتغيّر بالكامل، وسيفكر الكثيرون ألف مرة قبل أن يلهثوا وراء المناصب، وهم يعلمون أن المنصب لم يعد “حماية”، بل “امتحان”.
قرار إحالة التقرير إلى العدالة هو بداية فعلية لأخلقة الحياة العامة في البلاد. أخلقة تبدأ بجعل المسؤولية أمرًا حقيقيًا لا مجرد عنوان في الخطب، وتجعل من تقلّد المناصب أمرًا مشروطًا بالجدارة، لا بالولاء أو القرابة أو المصالح الضيقة. والنتائج المنتظرة من هذا المسار، إن تُرجمت إلى واقع، ستُحدث زلزالًا داخل البنية البيروقراطية للدولة، وستُجبر كل مسؤول غير كفء على التنحي، قبل أن يُجبره القانون على ذلك.
الرسالة الأهم في كل هذا، أن الدولة لا تسير بالشعارات، بل بالمحاسبة، وأن النية الحسنة وحدها لا تكفي، إن لم تتبعها قرارات فعلية تُعيد الانضباط إلى مفاصل الدولة. وما قام به الرئيس تبون في هذا الملف الحساس، خطوة جريئة وشجاعة في هذا الاتجاه، خصوصًا أن الملف يخص قطاع الرياضة، وهو من أكثر القطاعات التي تعيش فوضى واختلالات في التسيير منذ سنوات طويلة.
فوضى تبدأ من المداخيل غير المعلومة، إلى تذاكر الدخول التي لا يعلم أحد أين تذهب عائداتها، إلى الأرقام التي تُعلنها وزارة الرياضة والتي لا تُطابق ما يراه الناس في الملاعب بأعينهم. وهنا السؤال الكبير الذي يجب أن يُطرح، ونتمنى أن تفتحه العدالة لاحقًا، أين تذهب أموال الرياضة؟ ومن يحاسب على سوء التسيير؟ ومن يقف وراء هذا الكمّ من الغموض والارتجال في تسيير الملاعب والمنشآت الرياضية؟
أحداث ملعب 5 جويلية ليست فقط مأساة شبابية، بل هي مرآة لواقع إداري فاسد، يتطلب وقفة صارمة، لا مجاملة فيها. وإذا كانت الدولة قد بدأت اليوم بمحاسبة من تسبب في هذه الكارثة، فإن الأمل قائم في أن تمتد يد المحاسبة إلى كل القطاعات التي تعاني من التسيب والرداءة واللامبالاة.
الرئيس تبون، بهذه الخطوة، يُعيد تعريف العلاقة بين المسؤولية والسلطة، ويُعلن، بشكل غير مباشر، أن الدولة التي تُبنى على المحاسبة لا يمكن أن تُدار بعقلية “اللا أحد يُسأل ولا يُحاسَب”. إنها خطوة في الطريق الصحيح، قد تكون مؤلمة للبعض، لكنها ضرورية لمستقبل بلد يريد أن يتحرر من إرث الرداءة، ويشق طريقه نحو دولة حديثة تُدار بالكفاءات، لا بالعلاقات.
وإذا كانت هذه بداية، فإنها بداية واعدة، وعليها أن تُستكمل بإرادة سياسية واضحة، وبقضاء مستقل، وبمجتمع مدني لا يسكت، حتى تصل الجزائر إلى ما تستحقه فعلاً، دولة عادلة، قوية، ومحترمة.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…