‫الرئيسية‬ الأولى رحيل المجاهدة “ميمي”… حين تفقد الجزائر أحد أعمدة ذاكرتها الثورية
الأولى - الوطني - 11 يونيو، 2025

رحيل المجاهدة “ميمي”… حين تفقد الجزائر أحد أعمدة ذاكرتها الثورية

رحيل المجاهدة "ميمي"... حين تفقد الجزائر أحد أعمدة ذاكرتها الثورية
رحلت المجاهدة مريم بن محمد، المعروفة باسم “ميمي”، عن عمر ناهز المئة عام، وبهذا الغياب الجسدي، طُويت صفحةٌ مشرقةٌ من صفحات التاريخ الوطني الجزائري؛ لكنها لم تُغلق. فقد ظل اسم “ميمي” حيًّا في الذاكرة الجمعية باعتبارها واحدة من النساء القلائل اللواتي جمعن بين العمل الميداني الثوري، والقدرة على الصمت البطولي بعد الاستقلال.

لقد أعلنت وزارة المجاهدين وذوي الحقوق، يوم الأربعاء 11 جوان 2025، وفاة هذه المناضلة، التي وُوري جثمانها الثرى بمقبرة العالية في العاصمة، وسط حضور رسمي وشعبي تقدّمه وزير المجاهدين، العيد ربيقة، وعدد من المجاهدين ورفيقات الكفاح، وعلى رأسهن المجاهدة جميلة بوباشة. وكان الحضور، أكثر من مجرد وداع جنائزي؛ بل بمثابة وقفة تأمل أمام امرأة كانت تمثل ذاكرةً حيّةً لوطنٍ كامل.

لم تكن ميمي مجاهدةً بالوراثة أو المجاملة؛ بل كانت واحدة من أولئك اللواتي دفعتهنّ المعاينة اليومية لجراح الجزائريين إلى الانتقال من التضميد إلى المقاومة. عملت كممرضة في عيادة الطبيب الشهير زميرلي سنة 1955، وهناك، في قلب العاصمة، بدأ وعيها السياسي يتشكّل مع كل جريحٍ يُنقل إلى العيادة، ومع كل شهقة ألمٍ تروي فصلاً من فصول الظلم الاستعماري.

في عام 1956، لبّت نداء جبهة التحرير الوطني، فالتحقت بصفوفها ضمن المنطقة الأولى في الولاية الرابعة التاريخية. لم تكتفِ بدورٍ ثانوي؛ بل تولّت مهام حساسة بين الولايتين الثالثة والرابعة، حيث عملت على نقل الرسائل، تأمين المسالك، وتقديم الإسعافات الأولية للمجاهدين الجرحى. وقد اعتُقلت من قبل قوات الاحتلال الفرنسي في منطقة الأخضرية، وعانت من التعذيب، لتتحوّل تجربتها الشخصية إلى عنوان لصمود المرأة الجزائرية في وجه الاستعمار الوحشي.

لقد شكّلت المجاهدة “ميمي” نموذجًا نادرًا في المشهد الثوري؛ ليس فقط لأنها خاضت غمار العمل المسلح، بل لأنها مثّلت توازنًا بين الجانب الإنساني (من خلال مداواة الجرحى)، والجانب السياسي (من خلال انضباطها التنظيمي). إن قراءة سيرتها تقودنا إلى إعادة طرح سؤال طالما أغفلته الكتابات التاريخية الرسمية: ما حجم الدور غير المرئي الذي لعبته النساء المجاهدات في البنية التحتية للثورة؟ وهل نملك من الشجاعة ما يكفي لنمنح هؤلاء النسوة المكانة التي يستحققنها في روايتنا الوطنية؟

لقد اختارت “ميمي” الصمت بعد الاستقلال. لم تظهر كثيرًا في المناسبات؛ لم تطلب مقابلات ولا تسعى إلى تكريم. كانت تؤمن أن المجد الحقيقي لا يُبنى على الأضواء؛ بل على الوفاء للمبادئ التي من أجلها قاتلت. وحين زارها الوزير العيد ربيقة في أفريل 2025، برفقة رفيقتيها المجاهدتين جميلـة بوباشة ورفيقة أخرى من زمن الثورة، بدت الكلمات عاجزة أمام هيبة التاريخ الذي كانت تمثله.

إن رحيل “ميمي” يطرح سؤالاً مستعجلاً: هل نملك استراتيجية وطنية لحفظ الذاكرة الحيّة لمجاهدات ومجاهدين عاشوا الثورة وأحسّوا بها؟ وإذا كانت الكلمات التي ألقاها الوزير ربيقة في تأبينها تعبّر عن اعتراف رسمي بمكانتها، فإنّ الوفاء الحقيقي يبدأ بما هو أعمق من التأبين؛ يبدأ بالتوثيق، بالتدريس، وبجعل أمثال ميمي جزءًا من المقرّرات التعليمية، والمخزون السمعي البصري، وأرشيف الأمة.

في لحظة كهذه، لا يكفي أن نقول إنها كانت رمزًا؛ بل يجب أن نسأل: ماذا سنفعل برمزٍ كهذا؟ كيف ننقل رسالته؟ وكيف نستثمر في هذا الإرث لتقوية الهوية الوطنية في زمن تتعرض فيه الذاكرة للتشويش والنسيان المتعمّد؟

رغم أن الجثمان وُري الثرى، إلا أن السؤال الذي تطرحه سيرة “ميمي” لم يُدفن بعد. لقد كانت تمثل الرابط الحيّ بين جيل الثورة وجيل الاستقلال، بين الألم والأمل، وبين المقاومة والبناء. وها هو غيابها يعيد فتح النقاش حول موقع المرأة في التاريخ، ودور المجتمع في الحفاظ على ما تبقى من ذاكرته الشاهدة.

لقد ماتت ميمي كما عاشت؛ بصمت، بكرامة، وبكبرياء امرأة عرفت الوطن قبل أن تعرف الدولة، وحملت بندقيتها قبل أن تطلب الاعتراف. لقد تركتنا، لكنّها تركت أيضًا لنا إرثًا لا يقدّر بثمن، أن الوطنية فعل، لا شعار؛ وتضحية، لا مكافأة.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …