‫الرئيسية‬ في الواجهة أحوال الناس أحوال الجالية زيارة ديلوقو إلى الجزائر تفضح نفاق “فرنسا الأبية”

زيارة ديلوقو إلى الجزائر تفضح نفاق “فرنسا الأبية”

زيارة ديلوقو إلى الجزائر تفضح نفاق "فرنسا الأبية"
 قدّمت “فرنسا الأبيّة” (La France Insoumise) منذ نشأتها، نفسها كصوت الشعوب المضطهدة، وكحركة تقدمية تتبنى مبادئ الحرية والكرامة والسيادة، خاصة في علاقاتها مع شعوب الجنوب. غير أن زيارة النائب سباستيان ديلوقو إلى الجزائر، بلده الأصلي، والتصريحات الإيجابية التي أدلى بها هناك دون الإشارة إلى قضيتي بوعلام صنصال وكريستوف غليز، وضعت هذا الخطاب اليساري تحت مجهر التجربة، وأبرزت هشاشته، بل وتناقضه.

في ذروة التوتر القائم بين باريس والجزائر، اختار النائب المقرب من جان لوك ميلونشون أن يتوجه إلى الجزائر، حيث التقى مسؤولين وتحدث بحرارة عن “العلاقات المشتركة” و”الاحترام المتبادل” و”السيادة الوطنية”. بل عبّر على الهواء مباشرة عن إعجابه بحفاوة الجزائريين، مؤكدًا أنهم استقبلوه “بطريقة لم يشهدها من قبل في أي مكان”.

لكن هذا الموقف الصادق والودي كان كافيًا لإثارة عاصفة سياسية في فرنسا، حيث سارع الإعلام وبعض المسؤولين إلى انتقاد صمت ديلوقو حيال قضيتي صنصال وغليز. الأكثر إثارة للدهشة أن حركة “فرنسا الأبية” نفسها سارعت إلى تبرئة نفسها من نائبها، وأعلنت في بيان رسمي أن تصريحاته “شخصية”، ولا تعكس موقف الحركة ولا كتلتها البرلمانية.

هنا، تكشف الحادثة عن مفارقة خطيرة: اليسار الفرنسي، الذي يزعم احترام الشعوب، تبرأ من أحد نوابه فقط لأنه احترم وطن أصوله ولم يتدخل في شؤون قضائية جزائرية. بل بدا وكأن احترام السيادة الجزائرية أصبح تهمة في فرنسا، لا فضيلة سياسية.

واقع الحال أن كل من بوعلام صنصال وكريستوف غليز صدرت بحقهما أحكام قضائية عن سلطة جزائرية مستقلة، بموجب قوانين تتعلق بالوحدة الوطنية ومحاربة الإرهاب. وإذا كانت فرنسا تدافع عن استقلال قضائها بشراسة، فلماذا تطالب الآخر بالتدخل في قرارات محاكمه؟

ما فعله ديلوقو لم يكن تواطؤًا ولا تخليًا عن المبادئ، بل احترامًا لسيادة الدولة الجزائرية ومؤسساتها. والذين هاجموه – سواء من الإعلام أو من حزبه – إنما فضحوا ازدواجية الخطاب الفرنسي: فحين يُغني اليسار عن التضامن مع الشعوب، فإنه يقصد فقط التضامن الذي لا يزعج الحسابات السياسية لفرنسا.

في المقابل، اليمين الفرنسي لا يقل نفاقًا. فهو يستغل ملف المهاجرين للتجييش الانتخابي، ويهاجم الجزائر بحدة لكسب أصوات اليمين المتطرف. أما اليسار، فيرتدي قناع “الاحترام والتضامن”، لكنه يسقط القناع حين يقرر أحد نوابه كسر التبعية الخطابية لباريس، والحديث بندية مع دولة جنوبية.

ديلوقو لم يُدِن، ولم يُبرر، بل التزم الصمت إزاء قضايا قضائية تقع ضمن اختصاص سيادي جزائري. وهذا وحده كان كافيًا لتنهال عليه الاتهامات، ويُصوَّر وكأنه تخلى عن مبادئ اليسار. في الواقع، اليسار هو من تخلّى عن مبادئه حين فضّل المزايدة على حساب السيادة.

هذا يكشف ما هو أعمق: فرنسا، بيمينها ويسارها، لا تزال عاجزة عن تقبل فكرة أن الجزائر دولة ذات قرار مستقل. اليمين يهاجم، واليسار يراوغ، لكن حين يظهر موقف محترِم للجزائر، نابع من داخل فرنسا نفسها، يُقابَل بالرفض والتشكيك والتبرؤ.

لقد آن الأوان لفهم أن التضامن لا يُقاس بكمية التصريحات المستفزة ولا بالضغوط الإعلامية. بل يبدأ من احترام الدولة المقابلة، وثقافتها، وقضائها، وسيادتها. وديلوقو، رغم عفوية خطابه، كان أكثر انسجامًا مع قيم السيادة والكرامة من حزبه كله.

“لقد كشفت ‘فرنسا الأبيّة’ عن تناقضها الصارخ، حين فضّلت التبرؤ من نائبها بدلًا من الدفاع عن حقه في التعبير عن احترامه لبلد أصوله. ففي أول اختبار فعلي لشعاراتها، سقطت في فخ النفاق السياسي. حين يُحوَّل الاحترام إلى تهمة، ويُنتظر من نائب مهاجر أن يتنكر لجذوره كي يُرضي الأجندة الباريسية، فإن ما نراه ليس يسارًا مبدئيًا، بل امتدادًا ناعمًا لمنطق الهيمنة الثقافية، المغلف بخطاب تقدمي زائف.”


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …