زيارة سعادة تربك الصحافة الفرنسية: هل يُصلح الاقتصاد ما أفسدته السياسة؟!
استقبل رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، يوم 2 جوان 2025، رجل الأعمال الفرنسي رودولف سعادة، الرئيس المدير العام لمجموعة CMA CGM، عملاق الشحن البحري الفرنسي وثالث أكبر فاعل عالمي في هذا القطاع. هذه الزيارة التي تمّت في هدوء لافت، رافقتها تغطية صحفية فرنسية حذرة، لا تخلو من الترقب والاستغراب، بالنظر إلى السياق الدبلوماسي المتأزم الذي يطبع العلاقات بين الجزائر وباريس منذ أشهر.
صحيفة لوموند الفرنسية، ذات التأثير الواسع، نشرت تقريرًا مقتضبًا حول اللقاء، واختارت عنوانًا دالًا: “في الجزائر، تبون يستقبل رئيس CMA CGM لمناقشة مشاريع مشتركة… رغم الأزمة”. ما بين السطور، تُلمّح الصحيفة إلى المفارقة بين الجمود السياسي والمرونة الاقتصادية، حيث لم يصدر عن الإليزيه أي موقف علني بشأن هذه الزيارة، فيما اكتفى بيان الرئاسة الجزائرية بالتأكيد على “بحث مشاريع مختلفة ذات طابع اقتصادي”.
تقرّ لوموند ضمنيًا بوجود “قنوات خلفية” مفتوحة رغم التوترات، مشيرة إلى أن رودولف سعادة ليس مجرد رجل أعمال، بل يُعد من المقربين من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقد لعب أدوارًا غير رسمية في علاقات فرنسا بدول الجنوب، منها لبنان، مصر، وحتى ليبيا.
الملفت أن معظم الصحف الاقتصادية الفرنسية، على غرار Les Échos وLa Tribune, تعاملت مع الحدث من زاوية البراغماتية. إذ لم تركز على البعد السياسي للزيارة، بل على “فرص CMA CGM” في الدخول إلى السوق الجزائرية المتحوّلة، خاصة في ظل الخطط التي أطلقتها الحكومة الجزائرية لتطوير بنيتها التحتية، وتحرير الاقتصاد من قبضة الريع الأحادي المصدر.
صحيفة Les Échos ذكرت أن زيارة سعادة “تتجاوز الحسابات السياسية الضيقة”، وتنمّ عن رغبة فرنسية في الحفاظ على الحد الأدنى من النفوذ الاقتصادي في الجزائر، بعد أن بدأت باريس تخسر مواقع لصالح شركاء جدد كالأتراك، الصينيين، والروس.
من اللافت أن الزيارة لم تُرفق بأي إعلان رسمي من الجانب الفرنسي، لا من الخارجية ولا من الرئاسة، وهو ما اعتبرته بعض التحليلات “تكتيكًا متعمدًا لتجنّب استفزاز الجزائر”، أو على الأقل لعدم إعطاء الانطباع بأن باريس تحاول العودة إلى المشهد عبر الاقتصاد بعدما فقدت أوراقًا سياسية كثيرة.
وذهبت بعض الأصوات الفرنسية إلى أبعد من ذلك، مشيرة إلى أن زيارة سعادة جاءت بعد مبادرات فرنسية غير معلنة لإذابة الجليد، لكن الجزائر، بحسب ذات المصدر، فضّلت استقبال رجل أعمال بدلاً من مسؤول رسمي، كنوع من الاختبار أو الجسّ النبض.
من جهتها، تعاملت الجزائر مع الزيارة ببرودة بروتوكولية، حيث صدر بيان مقتضب عن رئاسة الجمهورية يذكر فقط أن اللقاء تناول مشاريع اقتصادية دون الكشف عن مضمونها. لكن الرسالة الأقوى، بحسب مراقبين، هي أن الجزائر مستعدة لاستقبال رؤوس الأموال لا النصائح، وتفتح أبوابها للشراكات الاقتصادية شريطة أن تكون على أساس الاحترام المتبادل، بعيدًا عن منطق الوصاية التاريخية الذي كان يطبع العلاقة مع فرنسا.
وفي هذا السياق، يقرأ كثيرون الخط التحريري الحذر للصحافة الفرنسية على أنه انعكاس لواقع مأزوم، فرنسا تحتاج إلى الجزائر اقتصاديًا أكثر مما تحتاج الجزائر إلى فرنسا سياسيًا، خصوصًا في ظرف دولي يتسم بتزايد المنافسة على الأسواق الإفريقية.
صحيفة La Tribune الفرنسية سلّطت الضوء على الطموحات الجيو-اقتصادية لمجموعة CMA CGM، وأشارت إلى أن الشركة ترغب في الاستثمار في موانئ كبرى على غرار الجزائر العاصمة، بجاية، ووهران، وتطوير مناطق لوجستية ذكية لتسهيل التصدير نحو إفريقيا جنوب الصحراء. وتضيف الصحيفة أن الجزائر، برؤيتها التنموية الجديدة، “تتحوّل إلى نقطة جذب فعلية”، مما يفسر لماذا يغامر رجال أعمال فرنسيون بالقدوم إليها حتى في عز البرود الدبلوماسي.
تعكس تغطية الصحافة الفرنسية لزيارة رودولف سعادة انقسامًا خفيًا بين المستويين السياسي والاقتصادي في إدارة العلاقة مع الجزائر. ففي حين تسود البرودة والتصعيد أحيانًا على المستوى الرسمي، لا تزال فرنسا، عبر رجال أعمالها وشركاتها الكبرى، تبحث عن موطئ قدم في الجزائر الجديدة.
لكن السؤال الذي يبقى مفتوحًا، هل تسمح الجزائر بعودة النفَس الاقتصادي الفرنسي من بوابة المصالح فقط؟ أم أنها تسعى إلى فرض شروط جديدة تُلغي الممارسات القديمة، وتؤسس لعلاقة تقوم على الندية لا التبعية؟ الأيام المقبلة وحدها كفيلة بالكشف إن كان استقبال الرئيس تبون لرئيس CMA CGM بداية صفحة اقتصادية جديدة، أم مجرد “انفراج تقني” لا يغيّر في شيء من عمق الأزمة السياسية.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …