“سجن صيدنايا” لمفيدة زروالي… الأدب حين يتحول إلى شهادة على وجع الإنسان
تضع الكاتبة الجزائرية مفيدة زروالي في عملها الأدبي الجديد “سجن صيدنايا”، القارئ أمام مرآة قاسية تعكس الوجه الإنساني للسجن، لا بوصفه جدراناً من حديد، بل كفضاء يتكثف فيه الصمت والوجع والعزلة. فالكتاب ليس رواية بالمعنى التقليدي، بل صرخة أدبية تحمل ملامح الشهادة الإنسانية، تكتبها الكاتبة بضميرٍ يقظ وقلمٍ مبلل بالألم، محاولةً أن تعيد لمن فقدوا صوتهم حقهم في أن يُسمعوا من جديد.
في “سجن صيدنايا”، لا تكتب زروالي عن الأرقام ولا عن الوقائع الباردة، بل عن الوجوه التي غابت خلف القضبان، عن أولئك الذين تآمر عليهم الصمت والنسيان. الجدران في نصها ليست مجرد ديكور سردي، بل كائنات شاهدة تحفظ الأنين وتردد صدى الألم. أما الحبر، فيتحول إلى شاهدٍ ومقاوم، إلى يد تمتد من بين الزنازين لتقول: “ما زال في الإنسان نبض”. بأسلوبٍ لغوي مشحون بالعاطفة والصدق، تنحاز الكاتبة إلى المقهورين، لا من موقع الشفقة، بل من موقع الواجب الأخلاقي، فشهادتها هي فعل مقاومة ضد الصمت والتواطؤ.
زروالي لا تكتب عن السياسة أو الحرب بقدر ما تكتب عن الإنسان المكسور في أعماقه، عن السجين الذي يسكن كل واحدٍ منا حين نصمت أمام الظلم. تمتزج في نصها الواقعية بالقيمة الإنسانية، ويتحوّل الأدب إلى أداة للعدالة المؤجلة، لأن الكلمة – كما تقول – يمكن أن تكون ثورة حين تُقال في وجه العتمة. “سجن صيدنايا” هو شهادة عن الذين ما زالوا هناك، وعن ذاكرة جماعية تحاول النجاة من النسيان، وعن الياسمين الذي يزهر رغم الجدران العالية.
وتواصل الكاتبة هذا المسار في عملها “ليالي الأرق”، حيث تعود إلى أعماق النفس البشرية، لتروي حكاية طفلة خرجت من ظلام الذاكرة مثقلة بندوبٍ لا تندمل. هناك، يتحول السجن من مكان مادي إلى مساحة لاختبار الألم الإنساني، حين تلتقي السجينة بحارستها في رحلة تكشف أن كل إنسان يحمل داخله سجنه الخاص. بين الأرق والنجاة، بين الخوف والرغبة في التحرر، تكتب زروالي بلغةٍ تجمع بين القسوة والجمال، لتؤكد أن الأدب ليس هروباً من الواقع، بل اقتحامٌ لأعماق الإنسان في لحظاته الأشد ضعفاً.
ورغم أن الكاتبة خاضت تجارب متنوعة بين القصص الاجتماعية والكتب الفكرية والمجموعات التربوية، إلا أن “سجن صيدنايا” يمثل منعطفاً ناضجاً وجريئاً في مسيرتها الأدبية، لأنه يواجه القارئ بسؤال وجودي مؤلم، كيف ينجو الإنسان من سجنه، سواء كان زنزانة من حديد أم خوفاً يقيّده من الداخل؟ إنها تكتب عن الحرية الداخلية بقدر ما تكتب عن الأسر الخارجي، لتؤكد أن أقسى السجون هي تلك التي نسكنها بصمتٍ واختيار.
تنتمي مفيدة زروالي إلى الجيل الأدبي الجزائري الجديد الذي يكتب بلغةٍ صادقة تحمل بصمة الوجدان. هي ابنة ولاية خنشلة (بلدية بابار)، من مواليد 4 جوان 2000، حاصلة على ليسانس في الحقوق والعلوم السياسية من جامعة عباس لغرور، وتعمل أستاذة ومدربة في مجال الحساب الذهني. إلى جانب أعمالها الفكرية، ألفت مجموعة من الكتب الموجهة للأطفال، من أبرزها “الحساب الذهني في مملكة النمل”، وشاركت في عدد من الإصدارات الجماعية، منها: وكان وعداً مفعولاً، طريقي إلى الهداية، سيكولوجية العقول الأنثوية، غربة الدين، نسيج مبعثر، العنقاء، طلقة مميتة، فضلاً عن مؤلفات إلكترونية لاقت تفاعلاً واسعاً بين القراء.
بهذا الحضور المتنوع، تكرس مفيدة زروالي نفسها كـ صوت أدبي جزائري صادق، يكتب بضمير المربية ووجدان الإنسان. قلمها لا يسعى إلى الأضواء، بل يصنعها من بين العتمة، ولا يكتب ليرضي، بل ليشهد ويُذكّر.
“سجن صيدنايا” ليس مجرد رواية، بل صرخة في وجه الصمت الإنساني، ونافذة تُفتح على ذاكرة لا تريد أن تُنسى. إنه نصٌّ عن الإنسان حين يُسجن ظلماً، وعن العالم حين يصمت، وعن الأدب حين يقرر أن يكون وجهاً آخر للعدالة.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
العقرب الملائكي.. رواية تكشف الوجه الخفي لمعاناة المرأة بين القيد والنهضة
تطرح الكاتبة غنّام جمعة في روايتها الجديدة “العقرب الملائكي” عملاً سردياً لافت…







