سقوط “الماك” يعيد الاستعمار إلى ورقته الأخيرة.. الإسلاموية المتطرفة
فشلت قوى الاستعمار الحديث، وفي مقدمتها فرنسا، في تمرير مشروعها الهادف إلى تقسيم الجزائر عبر دعم ما يُعرف بحركة “الماك” الانفصالية، التي تطمح إلى إنشاء “جمهورية قبائلية” وهمية خارجة عن الدولة الجزائرية. هذا الفشل، الذي يعود في جوهره إلى الوعي الوطني العميق لدى سكان منطقة القبائل، لم يوقف محاولات زعزعة استقرار الجزائر، بل دفع المستعمرين الجدد إلى إعادة إحياء أحد أخطر الأسلحة التي عرفها التاريخ السياسي في المنطقة: التنظيمات الأصولية المتطرفة، التي تستثمر في الدين وتستعمله كحصان طروادة لتفجير المجتمعات من الداخل.
لقد مثل مشروع “الماك” النموذج الأوضح على مساعي قوى خارجية – مغربية، فرنسية، “إسرائيلية” – لزرع جسم غريب داخل النسيج الوطني الجزائري. بدأ المشروع في مطلع الألفية تحت غطاء مطالب ثقافية وحقوق لغوية، ليتحول تدريجيًا إلى خطاب انفصالي صريح، تقوده شخصيات تعيش خارج الجزائر، وتتبنى خطابات عدائية للدولة والمجتمع معًا.
لكن هذا المشروع اصطدم أولًا بالتاريخ، إذ لم يسبق في تاريخ الجزائر – منذ مملكة ماسينيسا، مرورًا بثورة التحرير، ووصولًا إلى الدولة الوطنية الحديثة – أن عرفت منطقة القبائل حالة من الانفصال السياسي أو الثقافي عن باقي مكونات الوطن. كما اصطدم ثانيًا بوعي السكان ووطنيتهم، الذين سرعان ما أدركوا أن المشروع المروج له لا يخدم لا الثقافة الأمازيغية، ولا حقوق الإنسان، بل هو امتداد لأجندة استعمارية بأدوات جديدة.
لقد سقط “الماك” قبل أن يولد، وانكشفت ارتباطاته بالمخزن المغربي، الداعم الرئيس له عبر الإعلام والتمويل، وببعض الدوائر الفرنسية، بل وحتى الإسرائيلية، التي وجدت في تقسيم الجزائر مدخلًا لإضعافها وعرقلة دورها الإقليمي، خصوصًا في منطقة الساحل.
لقد كانت وطنية سكان القبائل لوحدها كفيلة بإفشال مشروع “البريزيدان”، الذي لم يعد يشكل ورقة رابحة في يد الاستعمار لضرب الوحدة الوطنية الجزائرية. كما أن الانقسامات الداخلية داخل حركة “الماك” وتناقضاتها الفاضحة فضحت زيف أطروحاتها؛ فهي تسوّق خطابًا عدائيًا ضد “العربي الغازي” في الجزائر، لكنها في الوقت ذاته تتحالف مع النظام المغربي، الذي تحكمه أسرة عربية من سلالة العلويين، وتغض الطرف عن القمع الذي يتعرض له أمازيغ الريف وغيرهم داخل المغرب.
المخزن المغربي خاطر باستقراره الداخلي من خلال دعمه لحركة “الماك”، رغم أن المغرب بلد أمازيغي بنسبة تفوق 95%، تحكمه عائلة عربية الأصل تمارس قمعًا لا مثيل له. ومع فشل مشروع “الماك”، وجدت الجزائر نفسها ترد بالمثل عبر دعم حركة تحرير الريف، ذات التاريخ الثوري المعروف، والتي أسسها الأمير عبد الكريم الخطابي. وبدل أن يواجهها المخزن سياسياً، تحالف مع فرنسا وإسبانيا لقمعها، وهو ما بلغ ذروته حين استُخدم السلاح الكيماوي الإسباني لقتل ما يزيد عن 30 ألف جندي من جيش الأمير.
من جهته، يعيش فرحات مهني تناقضًا صارخًا؛ فهو قبائلي في الداخل، ومعتذر في الخارج أمام الإمارات عن مواقفه السابقة من العروبة والإسلام، ومتحالف مع نظام علوي يقمع الأمازيغ. كما أن محاولاته إشعال منطقة القبائل عبر عمليات إرهابية فاشلة لم تؤدِ إلا إلى زيادة وعي السكان وتعزيز شعورهم الوطني، مما ساهم في إجهاض مشروعه المدعوم أيضًا من إسرائيل، التي ترى في استقرار الجزائر وجيشها القوي تهديدًا لأطماعها الإقليمية.
مع تعرّي المشروع الانفصالي وانحسار صداه الشعبي، لم يتراجع الطموح الاستعماري في تفتيت الجزائر، بل غيّر وجهته نحو أخطر الأدوات المتاحة: التنظيمات الأصولية المتطرفة، والتي أثبتت – عبر العقود – فعاليتها في نشر الفوضى، وتفتيت المجتمعات، وإضعاف الدول من الداخل.
لم يعد الحديث هنا مقتصرًا على حركة بعينها مثل “الإخوان المسلمين”، بل يشمل طيفًا واسعًا من التنظيمات التكفيرية، والسلفية الجهادية، والميليشيات التي تنشط تحت رايات دينية، وتتقاطع مصالحها مع أجندات استخباراتية دولية، خصوصًا في المناطق الغنية بالثروات أو الحيوية استراتيجيًا مثل الجزائر.
وقد أثبتت تجربة العقود الأخيرة أن هذه التنظيمات لا تنشأ تلقائيًا، بل تُخلق وتُمول وتُسلّح برعاية قوى دولية، كما حدث في أفغانستان في الثمانينيات، والعراق بعد 2003، وسوريا بعد 2011، وليبيا بعد سقوط القذافي، وأخيرًا في منطقة الساحل الإفريقي، حيث تنشط عشرات الجماعات المسلحة تحت ستار “الجهاد”، بينما تخدم عمليًا مشروع زعزعة الدولة ونهب الموارد وتقويض المؤسسات.
ما يميز التنظيمات الأصولية المتطرفة في القرن الحادي والعشرين هو أنها أصبحت الاستعمار في ثوبه الجديد. لم تعد القوى الكبرى بحاجة إلى إرسال جيوشها، بل يكفي أن تُنشئ أو تُنعش تنظيمًا مسلحًا متشددًا، يتغلغل في نسيج المجتمع تحت عباءة الدين، ليقوم بالمهمة نيابة عنها. وهذا ما حذّر منه خبراء مثل الأمريكي غراهام فولر، المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، الذي أقر في مذكراته بأن الإسلام السياسي، في شكله العنيف، كان يُستخدم ضمن استراتيجيات طويلة الأمد لاحتواء الحركات القومية المستقلة في العالم الإسلامي.
وفي هذا السياق، تُستهدف الجزائر بشكل خاص، نظرًا لثقلها الإقليمي، واستقلال قرارها السيادي، ودورها الفاعل في دعم حركات التحرر ومواجهة الهيمنة الغربية في إفريقيا. وهكذا، تتزايد المؤشرات على محاولات إحياء الفكر المتطرف داخل الجزائر، عبر وسائط ثقافية ودينية وتعليمية وإعلامية.
من أخطر مظاهر عودة هذه التنظيمات ليس السلاح بحد ذاته، بل التهيئة الثقافية والاجتماعية للبيئة التكفيرية. حيث تظهر في البداية حملات متفرقة لتحريم الموسيقى، أو اللباس، أو بعض السلوكيات الاجتماعية، ثم تتطور إلى وصم فئات من المجتمع بالفسق والكفر، قبل أن تُطلق فتاوى تبرر القتل باسم “تطهير المجتمع”. وهذا ما حدث فعليًا في سنوات العشرية السوداء، حين قُتل آلاف الأبرياء على يد جماعات كانت تبرر جرائمها بخطاب “شرعي”.
ورغم نجاح الدولة الجزائرية في القضاء على هذه الجماعات عسكريًا، إلا أن الفكر الذي كانت تحمله لم يُجتثّ بالكامل. بل تُشير مؤشرات عدة إلى عودته بصيغ جديدة، وعبر وسائط أكثر نعومة، ما يستدعي تدخلًا عاجلًا لتحصين المجتمع، خصوصًا فئتي الشباب والنساء، من هذا الخطر.
لا يكفي الرد الأمني على خطر التنظيمات المتطرفة، بل لا بد من تحصين فكري شامل، يبدأ من المدرسة، ولا ينتهي عند المسجد. فالدولة مطالبة اليوم بتعزيز الخطاب الديني الوسطي، وتفعيل المؤسسات الدينية الرسمية، ومحاصرة منابع التطرف، سواء عبر الإعلام أو شبكات التمويل الخيري المشبوه.
كما أن دور النخب الثقافية والإعلامية والمجتمع المدني لا يقل أهمية، فالمعركة مع الفكر الظلامي هي معركة وعي قبل أن تكون معركة سلاح، والمعركة مع الاستعمار الجديد هي معركة دفاع عن الهوية، والسيادة، والمستقبل.
مثلما أفشلت وطنية سكان منطقة القبائل مشروع “الماك”، فإن وعي الشعب الجزائري هو من سيفشل – مجددًا – مشروع إعادة تدوير الجماعات المتطرفة لضرب استقرار الوطن. فهذه التنظيمات، رغم اختلاف راياتها، تلتقي في جوهر واحد، خدمة المشروع الاستعماري الجديد، الذي يستبدل الدبابة بالحزام الناسف، والجنرال بالشيخ التكفيري.
ولعل من دروس التاريخ الأهم، أن الجزائر التي هزمت الاستعمار الفرنسي بالسلاح، وقهرت الإرهاب بالدم، قادرة اليوم، بوعي شعبها ومتانة مؤسساتها، على إسقاط كل مشروع خارجي، مهما تعددت وجوهه.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…