‫الرئيسية‬ الأولى عبد الرزاق مقري… من “شريك السعيد” إلى “ضحية الاستئصال”!
الأولى - الوطني - مقالات - 14 يوليو، 2025

عبد الرزاق مقري… من “شريك السعيد” إلى “ضحية الاستئصال”!

عبد الرزاق مقري… من "شريك السعيد" إلى "ضحية الاستئصال"!
خرج عبد الرزاق مقري، الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم، في منشور مطول ومشحون بلغة انفعالية، للرد على بيان صادر عن حزب الأرسيدي عبّر فيه عن اعتراضه على تعيين النائب زكريا بلخير على رأس لجنة التربية في المجلس الشعبي الوطني. غير أن مقري، بدل أن يتناول الأمر بهدوء ومسؤولية سياسية، اختار الانزلاق إلى خطاب مأزوم، يعيد إنتاج أقدم وأعطَب ثنائية أيديولوجية عرفتها الجزائر، الإسلاميون مقابل العلمانيين.

منشوره كان بمثابة إعادة بث لخطاب التسعينيات الممزق، بعبارات من قبيل “الاستئصال” و”الاختراق داخل الدولة” و”الحياد الزائف”، وكأن الجزائر ما زالت عالقة في دائرة الخوف والانقسام. والأدهى من ذلك، أن هذا الخطاب لم يصدر عن ناشط هامشي أو كاتب حالم، بل عن شخصية سياسية كان يُفترض بها أن تكون من صناع التهدئة والمصالحة، لا من مُشعلي الحرائق.

ما كان من المفترض أن يكون مجرد تعيين إداري داخل مؤسسة تشريعية منتخبة، حوّله مقري إلى مادة خام لاستحضار مظلومية قديمة جديدة. الحزب الذي قاد مفاوضات مع “عصابة غير دستورية” لأجل التوافق، وجلس مع السعيد بوتفليقة في لقاءات غير معلنة، وناقش إمكانية تأجيل الانتخابات والعبث بإرادة الشعب، يخرج اليوم ليخوض معركة هوية ضد حزب معارض. هذا وحده كافٍ لنسف المصداقية السياسية التي يحاول مقري أن يحتفظ بها بين أنصاره. فهو الذي كان يسوّق نفسه بصفته زعيمًا لتيار “التوافق الوطني”، يعترف علنًا بلقاءات سياسية مع شقيق الرئيس المخلوع بوتفليقة، ورغم ذلك يُقدم نفسه اليوم مدافعًا عن الشفافية والحياد والمؤسسات.

أكثر من ذلك، يحاول مقري في منشوره أن يُلبس موقفه بعدًا مبدئيًا ووطنيًا، حين يربط رفض تعيين بلخير بمسألة تعيين ليلى عسلاوي في المحكمة الدستورية، ويوحي بأن هناك توازنًا سياسيًا مفقودًا. وهذا خلط فج بين مستويين مختلفين من مؤسسات الدولة. فالأول يتم تعيينه بموجب توافق داخل الكتل النيابية، والثانية عُيّنت بمرسوم رئاسي في مؤسسة سيادية. استخدام هذا التوازي المصطنع ليس إلا وسيلة لتقوية سردية “الحياد الزائف”، لكنه في الحقيقة يعكس فقرًا في الحجج وخلطًا في المفاهيم الدستورية.

الأدهى من هذا الخلط هو محاولته الإيهام بأن التيار الذي تمثله ليلى عسلاوي ينتمي إلى ما يسميه مقري بـ”الاستئصاليين”، بينما بلخير يُقدم وكأنه رمز لانتصار الإرادة الشعبية. ومن هنا ينهار خطابه تمامًا، لأن عسلاوي لم تُتهم من أي طرف بغياب الكفاءة أو المهنية، ولم يُعترض على تعيينها بشخصها، في حين أن مقري نفسه هو من يحوّل موقعًا رمزيًا داخل البرلمان إلى معركة وجودية، وينتقد خصومه لأنهم “تجرأوا” على التعبير عن رأيهم. وكأن الديمقراطية التي ينادي بها يجب أن تمارس فقط حين تخدم مصالحه، وتصمت حين يُطرح أي نقد على توجهه.

في منعطف خطابي لا يخلو من التناقض، ينتقل مقري إلى مقارنة قضية الدكتور محمد بلغيث بالكاتب بوعلام صنصال، ليقول إن الدولة وقفت على الحياد بينهما. وهنا تتجلى قمة الخلل في منطقه. فالحقيقة أن الدولة لم تكن هي الطرف المحايد، بل العدالة الجزائرية هي من نظرت في القضيتين، وأثبتت بذلك استقلاليتها حين فصلت في كل ملف وفق معايير قانونية لا أهواء أيديولوجية. غير أن ما يُغفله مقري – أو يتغافل عنه عمدًا – هو أن بلغيث لم يكن مجرد صاحب رأي عابر، بل صدر بحقه حكم قضائي بالسجن خمس سنوات بتهمة الاعتداء على رموز الأمة، وهي تهمة خطيرة لا يمكن تبريرها تحت غطاء حرية التعبير أو الاختلاف في التأويل.

وحتى بوعلام صنصال، الذي طالما قُدّم في خطاب مقري كمثال للحياد الزائف، لم يُستثنَ من سلطة القانون، إذ أصدرت محكمة جزائرية حكمًا قضائيًا بسجنه خمس سنوات نافذة بتهمة المساس بوحدة الوطن. أي أن مزاعم مقري بشأن حياد الدولة سقطت بالكامل أمام الحقائق القضائية، التي تعاملت مع كل حالة وفق ما تستوجبه الأدلة، لا الانتماءات السياسية. ومع ذلك، لا يزال مقري يحاول وضع بلغيث وصنصال في نفس الكفة، وهو قياس فاسد من أساسه. فبين من يُدان بأحكام قضائية واضحة في الداخل، ومن يُهاجم البلاد من الخارج ويُجاهر بالولاء لأعدائها، لا يمكن الحديث عن حياد الدولة بقدر ما هو حياد العدالة، إن كان ثمة حياد. هذه المقارنة لا تخدم سوى التعمية على الوقائع وتزييف الحقائق.

لقد أراد مقري تثبيت سردية أن الدولة تُساوي بين طرفين لا يتساويان، لكنه في سعيه لذلك، ينكأ الجراح ويُسقط كل المعايير. ثم يزيد على ذلك تناقضًا حين يعترف بأن التيار الإسلامي بات “بلا أظافر”، “وديعًا”، “مروّضًا”، ويكاد يصفه بالعاجز، لكنه مع ذلك يُصر على أن خصومه هم السبب في هذا الانهيار. وكأن التيار الذي قاده بنفسه سنوات، وسوّق له في أحلك مراحل الأزمة، ليس من مسؤوليته، بل نتيجة مؤامرة من الخارج. هذا هو الإفلاس الفكري في أقبح تجلياته.

يبدو أن مقري، في غمرة انفعاله، لم يدرك أنه إنما يُدين نفسه، قبل أن يُدين الأرسيدي أو أي طرف آخر. فمن الذي قاد هذا التيار لسنوات؟ من فاوض باسمه؟ من قدّم التنازلات؟ من قبِل الدخول في تحالفات لم تنتج إلا خيبة سياسية؟ مقري نفسه. فالانهيار لم يكن نتيجة مؤامرة خارجية، بل ثمرة تراكمات داخلية صنعها هو ومن حوله.

أما أكثر ما يثير القلق فهو استخدامه المريب لمصطلح “النوفمبري الباديسي”، الذي اخترعه -حسب قوله – وراح يسوّقه كشعار سياسي جامع. لكن هذا المصطلح ليس فقط فاقدًا للمعنى، بل هو أيضًا تزوير فاضح للذاكرة الوطنية. الشيخ عبد الحميد بن باديس توفي سنة 1940، أي قبل اندلاع ثورة نوفمبر بـ14 عامًا، ولم يكن جزءًا من الجبهة ولا من الكفاح المسلح. محاولة ربط اسمه بثورة التحرير هو خلط غير نزيه بين من كان يناضل بالكلمة وبين من حمل السلاح لتحرير الوطن. وهذا الخلط لا يليق لا بتاريخ ابن باديس، ولا بقداسة نوفمبر، ولا بذاكرة الشعب الجزائري الذي يعرف جيدًا من قاتل في الجبال ومن قاتل بالقلم، ولكل مقامه ومكانته.

إن منشور مقري لا يمكن قراءته إلا باعتباره وثيقة من وثائق الإفلاس السياسي. خطاب يائس يُعيد تدوير مظلومية انتهى أجلها، ويبحث عن شماعة لتعليق فشل جماعي استمر لعقود. ورغم أنه لا يتردد في وصف التيار الإسلامي بأنه مروّض ومهزوم، فإنه لا يُغادر الساحة ولا يُعلن القطيعة، بل يستمر في الحضور الهزيل داخل المؤسسات التي يصفها بالفاقدة للحياد. هذه هي قمة التناقض، أن تلعن الكرسي وأنت جالس عليه.

لا يطرح مقري أي بديل. لا يتحدث عن تطوير السياسات التعليمية، ولا عن إصلاح البرلمان، ولا عن تعزيز المشاركة السياسية. كل ما يفعله هو اجترار التاريخ، والحديث عن مؤامرات، والتذمر من تراجع نفوذ تياره. لكنه لا يمتلك الشجاعة للاعتراف بأن هذا التراجع سببه الأساسي ليس خصومه، بل هو، وخياراته، ووعوده التي لم تتحقق.

يبدو عبد الرزاق مقري مثل من يُطلق النار على ظله، ويصرخ، هناك من يهاجمني. لا خصومه اقتنعوا بخطابه، ولا جمهوره القديم يجد فيه ما يستنهض الهمة. السياسة، كما نعلم، لا تُمارس بالمرارة، ولا بالبكاء على الأطلال، بل بالفكر، والمراجعة، والقدرة على تقديم البدائل. فهل يستطيع الرجل أن يعترف بأن المعركة ليست مع عسلاوي، ولا مع الأرسيدي، بل مع ذاته؟


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …