‫الرئيسية‬ الأولى فرنسا تتهم الجزائر بـ”حرب رقمية”… من يهاجم من؟
الأولى - الافتتاحية - الوطني - 16 يوليو، 2025

فرنسا تتهم الجزائر بـ”حرب رقمية”… من يهاجم من؟

فرنسا تتهم الجزائر بـ"حرب رقمية"... من يهاجم من؟
نشرت صحيفة Le Canard enchaîné الفرنسية في 15 يوليو 2025 تقريرًا صحفيًا يزعم أن الجزائر تدير حملة رقمية “عدائية” ضد فرنسا، عبر ما تصفه بـ”ذباب إلكتروني موجه” وخلايا سيبرانية تابعة لأجهزة الدولة الجزائرية. التقرير، الذي يستند إلى مذكرة سرية من هيئة “Viginum”، يتهم الجزائر باستهداف مؤسسات الدولة الفرنسية، وتشويه صورة الرئيس إيمانويل ماكرون، وتأجيج الذاكرة التاريخية للجالية الجزائرية في فرنسا.

إلا أن القراءة المتأنية لهذا التقرير، سواء من حيث بنيته الاتهامية أو من حيث خلفيته السياسية، تكشف حجم التناقضات والتأويلات المغرضة التي تسعى دوائر سياسية وإعلامية في باريس إلى ترسيخها، في محاولة لتأليب الرأي العام الفرنسي ضد الجزائر.

بحسب المقال، فإن هيئة Viginum، المختصة برصد التهديدات الرقمية الأجنبية، قد أعدّت تقريرًا تتحدث فيه عن نشاط مكثف لحسابات مزيفة تنشر “رسائل معادية لفرنسا” على مواقع التواصل الاجتماعي، وتركز على مواضيع مثل الاستعمار، مجازر الشرطة الفرنسية ضد الجزائريين، ودعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية.

ذروة الحملة، حسب الصحيفة، وقعت في 5 يوليو 2025، حين سمحت بلدية باريس بالسباحة في نهر السين. تزامن الحدث مع العيد الوطني لاستقلال الجزائر، الأمر الذي أثار موجة من الانتقادات من قبل جزائريين ومتعاطفين على وسائل التواصل الاجتماعي، معتبرين أن اختيار هذا التاريخ تحديدًا يُعد استفزازًا وسوء تقدير تاريخي، خاصة في ظل عدم اعتراف فرنسا الرسمي بمجازر 17 أكتوبر 1961، حين قُتل عشرات المتظاهرين الجزائريين وألقي بهم في نفس النهر.

هل مجرد التعبير عن هذا الاستياء الرقمي يُعتبر جريمة رقمية أو تدخلًا أجنبيًا؟ يبدو أن بعض الجهات في فرنسا تعتبر أن أي تذكير بتاريخها الاستعماري يُعد “عدوانًا سيبرانيًا”، بينما تُبرئ نفسها من قرون من الاحتلال والقمع والتنكيل.

“ذباب إلكتروني جزائري”… التسمية الجاهزة

لا جديد في الخطاب الفرنسي حين يتعلق الأمر بالجزائر، اتهامات جاهزة، وتوصيفات مُستنسخة من تجارب دول أخرى، ومحاولة إلصاق نفس النموذج على كل من يجرؤ على انتقاد باريس. في التقرير، ورد أن آلاف المنشورات نُشرت على فيسبوك ويوتيوب خلال ديسمبر 2024، تضمنت حديثًا عن “مؤامرة فرنسية ضد الجزائر يقودها جهاز DGSE”، وأن حملة رقمية دعت لمقاطعة علامات تجارية مثل تيفال، لا فاش كيري، بيجو، ولاكوسط.

كما نُشرت صور مركبة ساخرة يظهر فيها الرئيس الفرنسي منحنياً أمام نظيره الجزائري، أو يحمل أثر صفعة رمزية. هل يُعقل أن يكون نشر صورة ساخرة على تويتر مبررًا لتعبئة الأجهزة الأمنية واتهام دول بأكملها بـ”زعزعة الاستقرار”؟!

اللافت أن التقرير لا يقدّم دليلًا ماديًا مباشرًا على ضلوع الدولة الجزائرية، بل يستند إلى ما وصفه بـ”تكرار المحتوى نفسه بفارق زمني بسيط”، وإلى أن بعض الحسابات الإلكترونية استخدمت خوادم بريد يُزعم ارتباطها بـ”Onplitic”، الهيئة الجزائرية لمكافحة الجرائم الإلكترونية. وهذا الطرح، رغم خطورته، يفتقد إلى الشفافية، ولا يتجاوز حدود الاتهام الافتراضي.

في عمق المقال الفرنسي، يمكن تلمس عقدة لم تُحل بعد، عقدة التاريخ. الجزائر، التي لا تزال تطالب باعتراف رسمي بجرائم الاستعمار، ومحاسبة معنوية على ما جرى من قتل وتجويع ومحو هوية، تُتهم اليوم بأنها “تستفز فرنسا” فقط لأنها تذكّر بالماضي. وهنا بيت القصيد. فرنسا، في واقعها السياسي والإعلامي، لم تغفر للجزائر خروجها من الوصاية الفكرية والتبعية الثقافية. لم تغفر لها أن ترفع رأسها، وأن تطالب بعلاقات ندّية قائمة على الاحترام المتبادل. ولهذا السبب، تُفسَّر كل انتقاد، وكل موقف سيادي، على أنه “عدوان” أو “حرب معلوماتية”. لكن من يُراجع مسار العلاقات بين البلدين في السنوات الأخيرة، لن يفوته إدراك أن الطرف المعتدي فعليًا لم يكن الجزائر.

حين تتحدث فرنسا اليوم عن “محاولات جزائرية لزعزعة استقرارها”، فإن السؤال الجوهري الذي ينبغي أن يُطرح ليس، هل فعلت الجزائر ذلك؟، بل بالأحرى، من بدأ فعلًا بالتصعيد؟ ومن دأب على توتير العلاقات الثنائية بقرارات عدائية وسلوك استعلائي متكرر؟ لنكن واقعيين ونعُد قليلًا إلى الوراء لنفكك صورة “الضحية” التي تحاول باريس الترويج لها.

في أواخر عام 2021، اتخذت الحكومة الفرنسية قرارًا أحاديًا ومفاجئًا بتقليص منح التأشيرات للمواطنين الجزائريين، بما في ذلك الطلبة الجامعيون، الأكاديميون، الفنانون، وحتى رجال الأعمال. القرار لم يكن نتيجة خلل إداري أو سوء تفاهم مؤقت، بل كان مدفوعًا بنزعة سياسية عقابية، هدفها ممارسة ضغط غير مباشر على الجزائر عبر وسيلة تمسّ شرائح واسعة من النخبة والمجتمع المدني. إنه قرار عنصري في جوهره، يعكس عقلية استعلائية ما زالت ترى في التأشيرة أداة إذلال، لا وسيلة تواصل حضاري.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. بل تمادت باريس، حين رفضت استقبال عدد من الجزائريين المبعدين قسرًا، رغم أنهم يحملون وثائق هوية فرنسية أو كانوا مقيمين بصفة قانونية. تحت غطاء “العودة القسرية”، تم التعامل مع هؤلاء وكأنهم عبء إنساني، لا أفراد لهم كرامة وحقوق. فرنسا، التي تُنصّب نفسها حامية لحقوق الإنسان عالميًا، نسيت تلك القيم حين تعلق الأمر بأبناء مستعمرتها السابقة.

أما على المستوى الإعلامي والسياسي، فلا تكاد تمرّ مناسبة دون أن تشهد الساحة الفرنسية هجومًا مباشرًا أو تلميحيًا ضد الجزائر. شخصيات سياسية معروفة مثل برونو ريتايو وجوليان أودول جعلت من الجزائر مادة دائمة للتهجم والإثارة الانتخابية، وكأنهم لا يملكون برنامجًا سوى التحريض ضد الجزائريين والمسلمين. وسائل إعلام فرنسية، بعضها خاص وبعضها شبه رسمي، تساهم بدورها في خلق صورة نمطية مشوّهة للجزائر، تُصوّرها كعدو دائم لفرنسا، أو كمصدر تهديد يجب الحذر منه. هذا الخطاب لا يُعبر فقط عن انزلاق يميني متطرف، بل أصبح سياسة ممنهجة تتغذى من رواسب استعمارية لم تُهضم بعد.

الأكثر خطورة هو تدخل باريس غير المباشر في الشأن الجزائري الداخلي. تحت ذريعة “الدفاع عن الحريات” أو “دعم المجتمع المدني”، فتحت فرنسا أبوابها لشخصيات جزائرية فاقدة للشرعية، بعضها يُمارس التحريض علنًا ضد بلده، ويستغل الفضاء الفرنسي كمنصة لضرب الاستقرار الوطني والتشويش على مؤسسات الدولة. هذا النوع من التدخل لا يمكن فهمه إلا ضمن منطق الهيمنة القديمة، فرنسا لم تتقبل بعد أن الجزائر اليوم دولة ذات سيادة كاملة، تصنع قراراتها بيدها وترفض الوصاية أكانت سياسية أو فكرية.

من كل ما سبق، يتّضح جليًا أن فرنسا ليست في موقع يؤهلها للحديث عن تهديد خارجي لسيادتها أو استقرارها. لأنها هي من تبادر في كل مرة بالتضييق، بالإهانة، بالتحريض، وبمحاولة فرض نموذج علاقتها الخاصة الذي لم يعد مقبولًا. إن سلوكها المتعالي تجاه الجزائر، ورغبتها المتكررة في رسم حدود ما يجوز وما لا يجوز في التعبير، ليسا سوى أعراض لأزمة أعمق، أزمة دولة استعمارية فشلت في بناء علاقة طبيعية وسوية مع مستعمراتها السابقة.

ولذلك، فإن محاولة تصوير الجزائر على أنها “المُعتدية” في هذا السياق، ليس إلا تحريفًا للواقع، وتجاهلًا متعمدًا لسلسلة طويلة من المواقف والسياسات الفرنسية التي شكلت أساس التوتر، وأشعلت نيران الأزمة.

الجزائر الجديدة، كما أكدت قيادتها مرارًا، لا تحتاج إلى حملات سرية، ولا إلى حسابات وهمية لكي توصل رسائلها. صوت الدولة الجزائرية يخرج من منابر رسمية، وبشفافية كاملة، يعبر عنها في كل مرة وزير الخارجية أو رئيس الجمهورية نفسه.

إذا عبّر جزائري أو جزائرية عن غضبه من موقف سياسي فرنسي، فإن ذلك تعبير مشروع في إطار الحرية التي تدّعيها فرنسا نفسها. وإذا دعت أصوات جزائرية مستقلة إلى مقاطعة منتجات فرنسية، فهي ليست حملة عدائية، بل موقف استهلاكي حر، تمارسه الشعوب كل يوم في العالم دون أن يُتهموا بشن حروب رقمية.

آن الأوان أن تعترف فرنسا أن المشكلة ليست في “الذباب الإلكتروني”، بل في سياسة “النعامة” التي تنتهجها منذ عقود. المشكلة في فرنسا التي لم تعتذر يومًا عن جرائمها، ولم تحترم يومًا سيادة الجزائر إلا مكرهًة. فرنسا التي تفتح أبواب إعلامها وسياساتها للعداء المجاني ضد الجزائر، ثم تستنكر حين يأتيها الرد.

إن كان في الجزائر من ينتقد فرنسا، فذلك لأنه يشعر بواجب الدفاع عن تاريخه وكرامته وذاكرته. وإن كان هناك من يذكّرها بماضيها، فليكن في ذلك فرصة لمراجعة النفس لا لإلقاء التهم.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!

تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…