فرنسا تتهم من بنى اقتصادها بالاحتيال.. المتقاعد الجزائري في قفص الاتهام!
أشعلت فرنسا جدلًا سياسيًا جديدًا حول معاشات التقاعد المُحوّلة إلى الجزائر، في حملة إعلامية بدت وكأنها محاولة لاستثمار ملف اجتماعي – إنساني في صراع سياسي مكشوف.
فقد أثارت تقارير صادرة عن محكمة الحسابات الفرنسية، تتحدث عن “احتيال محتمل” على نظام التقاعد من طرف متقاعدين جزائريين، موجة من التصريحات والتغطيات الإعلامية التي صوّرت الأمر وكأنه “نزيف مالي ضخم” موجّه نحو الجزائر، رغم أن الأرقام الرسمية نفسها تُكذّب هذه السردية.
ووفقًا لتقرير مجلس المحاسبة الفرنسي لسنة 2025، فإن حجم المبالغ المشتبه في تحصيلها بغير وجه حق يتراوح بين 40 و80 مليون يورو سنويًا، من أصل 1.1 مليار يورو تُحوَّل إلى الجزائر كل عام. ما يعني أن نسبة الاحتيال المحتملة لا تتجاوز 3.6% من مجموع التحويلات. ورغم أن هذه النسبة تُعد هامشية في الحسابات الاجتماعية، إلا أن الخطاب الفرنسي ركّز عليها، متجاهلًا السياق الأوسع والأبعاد التاريخية المرتبطة بالموضوع.
في الوقت نفسه، تغيب لهجة التشكيك حين يتعلق الأمر بدول أوروبية مثل البرتغال (800 مليون يورو) أو إسبانيا (500 مليون يورو)، واللتين تستفيدان من تحويلات مماثلة من النظام التقاعدي الفرنسي، دون أن تطالهما نفس الحملة. وهنا يتجلى خطاب انتقائي مزدوج، يوحي بأن الجزائر مستهدفة بحد ذاتها، لأسباب تتجاوز مجرد “الرقابة المالية”.
والأدهى من ذلك أن البيانات الفرنسية نفسها تؤكد أن غالبية من يتقاضون معاشاتهم في الجزائر هم عمال جزائريون شرعيون اشتغلوا لعقود في المناجم والمصانع والشركات الفرنسية منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حين كانت فرنسا تفتقر إلى اليد العاملة بعد الحرب، واستقدمت آلاف الجزائريين للعمل في ظروف صعبة، غالبًا دون حماية اجتماعية حقيقية.
من المثير للسخرية أن تُتهم اليوم تلك الأجيال التي بنت فرنسا بعرقها ودمها، بالاحتيال على معاشاتها. هؤلاء الذين اشتغلوا في السكك الحديدية، في معامل صناعة السيارات، وفي قطاع البناء، بل حتى في المستشفيات الفرنسية كممرضين وعمال نظافة، يُنظر إليهم اليوم بعين الشك لا التقدير.
يكفي أن نعود إلى ملفات التأمين الاجتماعي والصور الأرشيفية لنرى وجوهًا سمراء متعبة خلف آلات صناعية ضخمة، تركت أوطانها لتعمل في مصانع “بيجو” و”رونو”، وتعيش في مساكن مهترئة في الضواحي الباريسية، ليُفهم أن الحديث عن “احتيال شامل” على التقاعد هو قمة الجحود التاريخي والسياسي.
منذ عام 2022، شرعت فرنسا في تنفيذ حملات تدقيق عبر الوثائق، في الجزائر والمغرب وتركيا، عبر “خبراء في مكافحة الاحتيال الوثائقي”، كما تسميهم السلطات الفرنسية. وقد كشفوا نسب وفاة غير مصرح بها تتراوح بين 2% و5%، وهي نسبة – رغم أنها تستدعي المعالجة الإدارية – إلا أنها لا تبرر حملة التشهير الإعلامي والسياسي التي صاحبت الملف.
إن تحويل مسألة تقنية إلى أداة سياسية تُستعمل في الحملات الانتخابية أو خطاب الشعبوية الفرنسية تجاه الهجرة والجزائريين خصوصًا، يُعَدّ انزلاقًا أخلاقيًا ومهنيًا يُهدد العلاقات الثنائية، ويعيد التوتر إلى ملفات كان من المفترض أن تطوى ضمن منطق الاحترام المتبادل.
إن تصوير الجزائر وكأنها “بؤرة فساد في نظام التقاعد الفرنسي” هو تجاوز مرفوض، خاصة أن الدولة الجزائرية تتعاون فعليًا مع السلطات الفرنسية في ضبط الملفات وضمان نزاهة التحويلات، وأن السفارات الفرنسية في الجزائر لا تُصدر شهادات حياة دون تحقق دقيق كل سنة.
لعل المسؤولين الفرنسيين بحاجة إلى تذكّر أن نفس هؤلاء المتقاعدين الجزائريين، الذين يُستهدفون اليوم بالشبهات، هم الذين خدموا الجمهورية الخامسة بصمت، وجاؤوا للعمل لا الاسترزاق، ودفعوا الضرائب والاشتراكات طوال عقود. هؤلاء ليسوا عبئًا، بل جزء من التاريخ المشترك، ومن ثمن استعمار دام 132 سنة. فهل يُعقل أن يتحول من عمل طيلة حياته إلى متهم فقط لأنه قرر قضاء تقاعده في مسقط رأسه؟
إن مكافحة الاحتيال واجب، ولا أحد يرفض الرقابة والتدقيق، لكن يجب أن تُمارس بروح العدالة لا برغبة الانتقام السياسي. والاحترام المتبادل يقتضي أن لا تتحول الإجراءات الإدارية إلى استهداف عنصري أو تشهيري ضد فئة اجتماعية هرِمة، ساهمت بصبرها وعملها في بناء فرنسا الحديثة.
ما تحتاجه فرنسا اليوم، إن كانت جادة في محاربة الاحتيال، هو نظام رقابة موحّد لكل الدول، بعيدًا عن ازدواجية المعايير التي تضع الجزائر دائمًا في قفص الاتهام دون سواها.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!
تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…