‫الرئيسية‬ الأولى فرنسا.. جمهورية على عتبة المجهول؟!
الأولى - الدولي - مقالات - 26 يوليو، 2025

فرنسا.. جمهورية على عتبة المجهول؟!

فرنسا.. جمهورية على عتبة المجهول؟!
تشهد فرنسا اليوم حالة سياسية دقيقة تُنذر بتحوّلات دستورية عميقة قد تعيد رسم طبيعة جمهوريتها ومؤسساتها. في خضم أزمات اجتماعية متلاحقة، وصراعات ثقافية متصاعدة، وتوترات داخلية وخارجية تغذي انقسامًا عامًا، بدأت تتشكّل قناعة في الأوساط السياسية والفكرية وحتى الشعبية بأن الجمهورية الخامسة، التي صمدت منذ عام 1958، تقترب من نهايتها، أو على الأقل من مفترق طرق قد يُفضي إلى ولادة نظام جمهوري جديد. وتكمن المفارقة في أن هذا الانهيار المحتمل لا يأتي نتيجة انقلاب أو حرب، كما كان متوقعًا في نظم أخرى، بل من داخل النظام نفسه، على يد من يُفترض به أن يحميه ويجسده، رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون.

عندما اعتلى ماكرون السلطة عام 2017، لم يكن مجرد رئيس شاب وطموح يحمل خطابًا إصلاحيًا، بل كان يُمثل، بوعي أو من دونه، لحظة انتقالية في السياسة الفرنسية. جاء من خارج المنظومة الحزبية التقليدية، ونجح في توظيف انهيار اليمين الجمهوري واليسار الاشتراكي لصالح مشروع وسطي فردي، تحوّل فيه من رئيس منتخب إلى محور النظام. بهذا، بدأ تفكيك البنية التعددية التي ميّزت الجمهورية الخامسة، واستُبدلت الحياة السياسية بمشهد قطبي متوتر، رئاسة فردية مركزية، ومعارضة من أقصى اليمين وأقصى اليسار، وفراغ حزبي ووسطي لا يحتمل الاستمرار.

مع مرور الوقت، اصطدمت وعود ماكرون بإصلاح الدولة وتحديث الاقتصاد بجدار الواقع الاجتماعي الفرنسي المتأزم. فبدلًا من تجسيد الانفتاح، اتجهت رئاسته إلى التشدد، وبدلًا من توسيع المشاركة الديمقراطية، لجأ إلى أدوات القوة الدستورية مثل المادة 49.3 لتمرير قوانين حساسة كإصلاح نظام التقاعد. منذ “السترات الصفراء” وحتى موجات الإضرابات والاحتجاجات النقابية، مرورًا بأحداث الضواحي، بدا أن الشارع الفرنسي يتملكه شعور متزايد بالاغتراب عن مؤسسات الجمهورية، وبأن النظام السياسي بات مُغلقًا أمام مطالبه. هذه الدينامكيات كشفت عن هشاشة الجمهورية الخامسة حين تفقد الشرعية الأخلاقية والسياسية، حتى وإن بقيت أدوات السلطة بيد الرئيس.

في هذا السياق، برزت أزمة العلاقة مع الجزائر كمرآة دقيقة لاختلال الداخل الفرنسي. عبر التصعيد الذي يقوده في المرحلة الحالية وزير الداخلية برونو ريتايو ضد الجزائر، وبخاصة ضد الجالية الجزائرية في فرنسا، ظهر أن جزءًا من استراتيجية السلطة هو تصدير أزماتها الداخلية نحو الخارج. بدل أن يعمل ماكرون على احتواء الأزمة، أو بناء جسر سياسي متزن مع الجزائر، التزم الصمت أو سمح باستمرار التصعيد. وبذلك، تحولت الجالية الجزائرية – وهي شريحة ضخمة من النسيج الاجتماعي الفرنسي – إلى هدف سياسي، ووسيلة لاستثارة النزعة الوطنية لدى اليمين الفرنسي. وفي هذا التوظيف السياسي للأقليات، يتكرر خطأ تاريخي دفع ثمنه كثير من الدول، إذ أن اللعب على أوتار الهوية في ظل انقسام مجتمعي قد يؤدي إلى احتكاك اجتماعي قد لا يُضبط، وربما يُمهّد لانفجار غير تقليدي.

ما يثير القلق الأكبر هو أن كل هذه الأزمات لا تجد في الجمهورية الخامسة أدوات واقعية لمعالجتها. لقد تأسست هذه الجمهورية عقب أزمة عسكرية وسياسية حادة عام 1958، حين عجزت الجمهورية الرابعة عن إدارة ملف الاستعمار، خاصة في الجزائر، وعانت من عدم الاستقرار السياسي الشديد. كانت الحكومات تتغير كل عدة أشهر، والبرلمان مشرذم، والنظام عاجز عن الحسم في القضايا الكبرى. مع تفاقم “أزمة” الجزائر وتصاعد تمرّد الضباط في الجيش الفرنسي، بدا واضحًا أن الدولة على وشك الانهيار، فاستُدعي شارل ديغول كمنقذ، ووافق على العودة بشرط تأسيس نظام جديد يمنح الرئيس صلاحيات واسعة. هكذا وُلدت الجمهورية الخامسة، كتعبير عن إرادة الحسم والاستقرار، لكنها بنيت أيضًا على منطق القوة الرئاسية، وهو المنطق الذي وصل إلى ذروته اليوم في “الماكرونية” الجديدة.

المفارقة أن ماكرون، بدلًا من أن يحمي الجمهورية الخامسة ويُصلح عيوبها، ساهم بشكل مباشر في إنهاكها. لقد قام بتفكيك البنية الحزبية الوسيطة، وأضعف النقاش البرلماني، وأفرغ الفضاء السياسي من الحيوية، واحتكر القرار في قصر الإليزيه. وبهذا، تحوّلت الجمهورية إلى ما يشبه الرئاسة التقنية التي تدير دولة معقّدة عبر إجراءات فوقية. هذا التوجّه قاد إلى نتيجة معاكسة، ازدياد التطرّف، فقدان الثقة، وصعود تيارات تُنادي بانهيار النظام نفسه. لذلك، بات السؤال المطروح اليوم بجدية ليس فقط هل ستصمد الجمهورية الخامسة حتى 2027؟ بل من سيؤسس الجمهورية السادسة، وبأي ملامح؟

وفي قلب هذا التآكل الجمهوري، لا يُمكن إغفال دور المعارضة التي وإن اختلفت في مرجعياتها، فإنها تتقاطع في التشكيك الجذري في صلاحية الجمهورية الخامسة. من جهة، يرفع اليسار الراديكالي، ممثلًا في شخصية جان-لوك ميلونشون، شعار “الجمهورية السادسة الآن”، معتبرًا أن الجمهورية الخامسة أفرغت الديمقراطية من مضمونها، وتحولت إلى آلية بيروقراطية لخدمة النخب الاقتصادية، بعيدًا عن الإرادة الشعبية. بالنسبة لهذا التيار، فإن إنهاء الجمهورية الخامسة ليس فقط ضرورة دستورية، بل شرط لإعادة توزيع السلطة، واستعادة التمثيل السياسي الحقيقي، وتوسيع الحريات الجماعية، وإعادة تأسيس العلاقة بين المواطن والدولة على أسس تشاركية، بعيدًا عن المركزية الباريسية والنموذج الرئاسوي المغلق.

وفي الجهة المقابلة، يرى اليمين المتطرف في سقوط الجمهورية الخامسة فرصة تاريخية لإعادة صياغة الدولة الفرنسية وفق تصورات ضيقة للهُوية والسيادة. بالنسبة لتيارات مثل “التجمّع الوطني”، فإن تقويض هذا النظام قد يتيح الفرصة للانقلاب على كل الإرث السياسي لما بعد 1962، بما في ذلك الاتفاقيات التي أُبرمت مع مستعمرات فرنسا السابقة، وعلى رأسها اتفاقية 1968 مع الجزائر، التي تنظم شروط التنقل والإقامة للجزائريين. من منظور اليمين القومي، تُشكّل هذه الاتفاقيات “تركة استعمارية معكوسة” تقيّد السيادة الفرنسية وتُغذّي ما يُسمى “الهجرة المتواصلة من الجنوب”، وهو ما يجعل من سقوط الجمهورية الخامسة مدخلًا للتخلص من هذا الإرث والتأسيس لسياسة أكثر تشددًا تجاه الجاليات المغاربية، وخصوصًا الجزائرية منها.

بهذا المعنى، تُصبح الجمهورية الخامسة، بالنسبة لليسار، رمزًا لانغلاق سياسي نخبوّي يجب تجاوزه نحو ديمقراطية أفقية؛ بينما يراها اليمين المتطرف حاجزًا قانونيًا يقيّد مشروعه القومي، ويريد إسقاطها لتفكيك البنية القانونية والرمزية للمرحلة التي تلت نهاية الاستعمار. وفي هذا التقاطع غير المعلن، تكمن خطورة المرحلة المقبلة، أن يُصبح سقوط الجمهورية الخامسة ليس نتيجة توافق وطني مدروس، بل حصيلة تصادمية بين مشاريع سياسية متعارضة جذريًا، ما يجعل من مستقبل الجمهورية السادسة – إن وُجدت – مفتوحًا على احتمالات متعددة، وربما غير ديمقراطية في جوهرها.

إن فرنسا تقف اليوم عند مفترق طرق لا يشبه أي منعطف سابق منذ الحرب العالمية الثانية. فإما أن تُعيد تجديد مشروعها الجمهوري بما يستجيب لتنوعها الاجتماعي واحتياجاتها السياسية، وإما أن تدخل مرحلة عدم استقرار سياسي طويل تُعيد فيها صياغة علاقتها بذاتها، وبالآخر، وبالعالم. وفي كلتا الحالتين، سيكون اسم ماكرون حاضرًا في كتب التاريخ: إما كمهندس مرحلة انتقالية نحو نظام أفضل، أو كالرئيس الذي أغلق بابًا عمره سبعون عامًا، دون أن يعرف كيف يفتحه من جديد.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …