‫الرئيسية‬ الأولى فيلم “الوجوه السوداء للاستقلال” يصنع الحدث في أوروبا
الأولى - فنون وثقافة - مقالات - 30 يونيو، 2025

فيلم “الوجوه السوداء للاستقلال” يصنع الحدث في أوروبا

فيلم "الوجوه السوداء للاستقلال" يصنع الحدث في أوروبا
في لحظة فارقة من الوعي الثقافي والسياسي الأوروبي، عُرض لأول مرة الفيلم الوثائقي الطويل “الوجوه السوداء”، للمخرج الجزائري الشاب حمزة مهدي، الذي استطاع أن يقدم عملاً سينمائيًا يوثّق جانبًا مهمًا وغالبًا ما يُهمَّش في تاريخ النضال الجزائري، ألا وهو مساهمة المهاجرين وعمال المناجم في أوروبا في بناء الحركة الوطنية والمطالبة باستقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي.

اختار المخرج حمزة مهدي عنوان “الوجوه السوداء” استنادًا إلى وصف قديم يعود إلى القرن الثامن عشر، أُطلق على عمال المناجم الذين كانوا يخرجون من أعماق الأرض بوجوه ملوثة بالسواد من الفحم والغبار. وهي تسمية لا تمت بصلة لـ”الأقدام السوداء”، المصطلح الذي يُستخدم للإشارة إلى المستوطنين الأوروبيين في الجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي. الفرق جوهري: “الوجوه السوداء” تسبق زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر بقرون، وتعبّر عن فئة عاملة مُنهكة، لا عن مستوطنين مدججين بالامتيازات.

استغرق إنجاز الفيلم سنوات عدة، جمع خلالها المخرج شهادات نادرة لعمال مناجم جزائريين من الجيل الأول من المهاجرين، إلى جانب شهادات مؤرخين من أوروبا والجزائر، ومحامين، ومجاهدين، ومسؤولين سابقين، في مزيج متناسق بين الرواية الشفوية والبحث التاريخي المؤرخ. الفيلم يتجاوز السرد الكلاسيكي ليكشف أوجهًا مجهولة من الهجرة الجزائرية إلى أوروبا في ظل الاستعمار الفرنسي، وأسبابها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

من خلال شهادات موثقة ومؤثرة، يسرد الفيلم واقع الجزائريين الذين اضطروا للهجرة إلى الخارج بحثًا عن عمل وظروف حياة أفضل، بعدما ضاق بهم العيش في وطنهم تحت سلطة استعمار لا يعترف بإنسانيتهم. أحد الشهود في الفيلم يوضح بمرارة كيف لم يكن يُنظر إلى الجزائري كـ”مواطن فرنسي” إلا عندما تُستدعى الحاجة إليه في صفوف الجيش الفرنسي، كما حدث خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، حينما سُحب الآلاف من الجزائريين قسرًا للدفاع عن فرنسا.

ومع الوقت، لم يعد هؤلاء المهاجرون مجرد أيادٍ عاملة؛ بل أصبحوا نواة للحركة السياسية الجزائرية في الخارج. في فرنسا وبلجيكا، بدأت تظهر بوادر التنظيم النقابي والسياسي، حيث انخرط الجزائريون في النقابات العمالية الفرنسية، لا سيما في الجنوب البلجيكي، وبدأت تظهر قيادات وطنية خرجت من رحم العمل النقابي، مثل عبد القادر حاج علي، الذي لعب دورًا محوريًا في نقل قضية الجزائر من أروقة المناجم إلى طاولات الأحزاب والنقابات الأممية.

واحدة من اللحظات التاريخية التي يوثقها الفيلم هي اللقاء بين عبد القادر حاج علي، النقابي الجزائري وعضو الحزب الشيوعي الفرنسي، ومصالي الحاج، الشخصية التي ستصبح لاحقًا رمزًا للنضال من أجل استقلال الجزائر. اللقاء، بحسب شهادة مؤرخ فرنسي في الفيلم، كان نقطة تحول تاريخية أدت إلى ولادة حزب نجم شمال إفريقيا، الذي أصبح أول تنظيم سياسي جزائري يتبنّى صراحة مطلب الاستقلال الوطني.

في خضم هذا الحراك، يروي الفيلم كيف أن النقاش حول استقلال الشعوب المستعمَرة طُرح في كنف الأممية الشيوعية، وهي المنظمة العالمية التي جمعت قوى اليسار حول العالم. ويبرز اسم الزعيم الفيتنامي هوشي منه كأحد الذين دافعوا بقوة عن حق هذه الشعوب، من بينها الجزائر، في تقرير مصيرها، في وقت كان لا يزال طالبًا في باريس، قبل أن يغادرها بعد تبني الأممية لهذا المطلب.

الفيلم لا يغفل أسماء مثل فيلالي، أحد أبرز الفاعلين غير المعروفين في مرحلة التأسيس السياسي للجزائريين في المهجر، والذين ساهموا لاحقًا في تشكيل أحزاب وطنية تبنت خطًا تحرريًا واضحًا، وكانت النواة الفكرية والتنظيمية التي زرعت فكرة الاستقلال بين صفوف المهاجرين، خاصة عمال المناجم، الذين ظلوا مرتبطين ارتباطًا وجدانيًا بالوطن الأم رغم بعد المسافة وقسوة الغربة.

مؤتمر بروكسل 1927… منصة الصوت الجزائري الحر

إحدى المحطات المركزية التي يغطيها الفيلم هي مؤتمر بروكسل سنة 1927، الذي عقد في قصر “إيغمونت” التابع حاليًا لوزارة الخارجية البلجيكية. في هذا المؤتمر، ألقى مصالي الحاج خطابًا ناريًا دعا فيه إلى ضرورة استقلال الجزائر، بحضور شخصيات دولية بارزة، من بينها هوشي منه. هذه اللحظة كانت بمثابة إعلان واضح بأن القضية الجزائرية أصبحت دولية، وأن للجزائريين في الخارج دورًا يتجاوز العمل اليدوي إلى العمل السياسي المؤثر.

الجزء الأقوى في الفيلم هو دون شك الشهادات الحية لعمال المناجم، الذين عايشوا فصول النضال، ونقلوا للمشاهد حجم المعاناة، وأيضًا حجم الأمل الذي دفعهم للانخراط في العمل السياسي الوطني. بعضهم تحدث بحرقة عن الصراع الدموي الذي اندلع بين جبهة التحرير الوطني وأنصار مصالي الحاج في المهجر، لكنه شدد في النهاية على أن “الاستقلال لا ثمن له”، وأن “تحقيقه كان يستوجب أي وسيلة وأي تضحيات”.

تميز المخرج حمزة مهدي بقدرة فريدة على التوفيق بين الرواية الشفوية للمشاركين وبين التحليل التاريخي، مستعينًا بمداخلات قيمة من أسماء وازنة مثل المؤرخ والمجاهد محمد حربي، والمحامي والسياسي علي هارون، والعقيد عمر بوداود، الذي لعب دورًا مهمًا في قيادة فيدرالية جبهة التحرير في فرنسا وأوروبا. هؤلاء لم يكونوا مجرد شهود، بل قادة للفعل السياسي والتحرري الذي صنع تاريخ الجزائر الحديثة.

“الوجوه السوداء” ليس فقط فيلمًا وثائقيًا؛ بل وثيقة بصرية تحفظ ذاكرة أجيال بأكملها، معظمها رحلت عن الدنيا بعد تسجيل شهاداتها، ولم تُتح لها فرصة مشاهدة هذا العمل الجبار. الفيلم يُخلّد مساهماتهم في نضال الشعب الجزائري، ويعيد الاعتبار لدور الجالية في بناء الوعي الوطني، في وقت كان فيه الداخل مكبلًا بالقمع الاستعماري.

يبقى الفيلم بمثابة تكريم عميق لجيل بنى الحركة الوطنية خارج حدود الوطن، وشارك في الكفاح التحرري من مواقع العمل، والنقابات، والاحتجاجات، وحتى المواجهات. إنها قصة شعب لم يتوقف عن المقاومة، حتى في أقصى مناجم أوروبا، حيث ظلت الوجوه السوداء شاهدة على الظلم، وعلى النضال، وعلى الكرامة التي لا يُمكن سحقها.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء

صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…