‫الرئيسية‬ في الواجهة اقتصاد في مواجهة الاقتصاد الخفي.. هل تنجح الجزائر في كبح هيمنة “الكاش”؟
اقتصاد - الأولى - مال واعمال - 29 يونيو، 2025

في مواجهة الاقتصاد الخفي.. هل تنجح الجزائر في كبح هيمنة “الكاش”؟

في مواجهة الاقتصاد الخفي.. هل تنجح الجزائر في كبح هيمنة "الكاش"؟
في ظل تصاعد حجم الاقتصاد الموازي وتراجع فاعلية السياسات النقدية، تتعالى الأصوات المطالِبة بإعادة النظر في أنماط الدفع السائدة في السوق الجزائرية، وعلى رأسها الاعتماد المفرط على النقد. من بين هذه الأصوات، يبرز الخبير في الجباية والمالية، أبو بكر سلامي، الذي شدد في حوار إعلامي حديث على ضرورة الحد من الدفع النقدي، معتبرًا أن الأموال المتداولة خارج النظام المصرفي بلغت مستويات غير مسبوقة، تهدد الاستقرار المالي وتقوّض جهود الرقمنة.

سلامي، الذي حل ضيفًا على برنامج “ملتيميديا”، لم يخف قلقه من اتساع رقعة السوق الموازية، مؤكدًا أن الكتلة النقدية المتداولة خارج البنوك تكاد تتجاوز تلك الموجودة داخلها. وهو تحذير ليس بالجديد، لكنه اليوم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، بالنظر إلى حجم السيولة الهائلة التي تتنقل يوميًا دون رقابة، ودون أن تترك أثرًا في الحسابات الرسمية للدولة.

الواقع أن ظاهرة “الكاش” في الجزائر لم تعد مجرد عادة استهلاكية أو ثقافية مرتبطة بانعدام الثقة في البنوك، بل تحوّلت إلى نظام اقتصادي موازٍ بكل ما تحمله الكلمة من معنى. سوق ضخمة من المعاملات اليومية – من شراء السلع والخدمات إلى عمليات المقاولات والتوظيف غير الرسمي – تجري كلها دون فواتير، ودون أثر مالي واضح. ما يعني أن الدولة تخسر، ليس فقط في الجباية والضرائب، بل في التخطيط أيضًا، لأنها لا تملك صورة حقيقية عن الدورة الاقتصادية الفعلية.

من هذا المنطلق، يرى سلامي أن أي إصلاح اقتصادي جاد لا يمكن أن يتم دون المرور عبر بوابة الرقمنة، وتحديدًا من خلال تقليص الاعتماد على الدفع النقدي، والانتقال إلى نظم الدفع الإلكتروني. لكن هذا الانتقال، حسب رأيه، يجب أن يكون مدروسًا ومبنيًا على أرضية مؤسساتية وبنية تحتية رقمية قوية، إلى جانب إعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات المالية.

ولا يتوقف حديث الخبير عند المعاملات النقدية، بل يمتد إلى مسألة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي خصصت لها الدولة الجزائرية برامج دعم وتمويل طيلة السنوات الماضية. ورغم كل تلك الجهود، فإن نتائجها لا تزال غير واضحة. فسلامي ينتقد غياب معطيات دقيقة حول ما أنفقته الخزينة العمومية في هذا القطاع، وما إذا كانت النتائج المحققة توازي حجم التمويل الموجه له. ويطرح تساؤلات مشروعة حول من استفاد فعلًا من هذه السياسات، وكيف يمكن تقييم الأداء بطريقة علمية وشفافة.

أمام هذا الغموض، تبرز الحاجة إلى إنشاء أجهزة رصد وتقييم، قادرة على تتبع مسار هذه المؤسسات، وتحديد العراقيل التي تواجهها، سواء كانت تشريعية أو تنظيمية أو حتى مرتبطة بسلوكيات السوق المحلية. فتطوير القطاع الخاص لا يمر فقط عبر ضخ الأموال، بل يحتاج إلى منظومة كاملة من المرافقة، التكوين، الرقابة والتشبيك مع بقية الفاعلين الاقتصاديين.

في خضم ذلك، أشار سلامي إلى تجربة “المقاول الذاتي” التي بدأت تفرض نفسها كنموذج بديل، لا يتطلب رؤوس أموال كبيرة، ويسمح بدخول عدد كبير من الشباب إلى عالم المقاولاتية. وهو نموذج، حسب قوله، أثبت نجاعته في الجزائر وفي عدة بلدان أخرى، من بينها المغرب وفرنسا. لكن، وكما في ملفات أخرى، يبقى غياب الدراسات الدقيقة عائقًا أمام فهم مدى تأثير هذا النموذج على الاقتصاد الوطني، وعلى مؤشرات البطالة والاندماج المهني.

إن دعوة سلامي لتقليص الدفع النقدي ليست فقط مطلبًا تقنيًا أو إجرائيًا؛ بل تعكس توجهًا نحو رؤية أوسع لإصلاح البنية الاقتصادية، تبدأ من محاربة السوق الموازية، وتصل إلى تحديث منظومة المعاملات المالية وتوسيع قاعدة دافعي الضرائب.

في هذا السياق، تشير آخر تقارير البنك المركزي الجزائري إلى أن السلطات تخطط لخفض الكتلة النقدية المتداولة بنسبة 30% خلال السنوات الثلاث المقبلة، عبر تشجيع الدفع الإلكتروني وتوسيع شبكة أجهزة الدفع. لكن هذه الخطة، رغم طموحها، لن تنجح دون مرافقة ثقافية ومجتمعية، تشرح للمواطن أهمية التحوّل الرقمي، وتمنح المؤسسات حوافز ملموسة لتغيير سلوكها المالي.

إننا أمام تحدٍّ مزدوج: اقتصادي وثقافي. فالإصلاح لا يمر فقط عبر القوانين، بل أيضًا عبر إعادة بناء العلاقة بين المواطن، الدولة، والمؤسسات المالية. في ظل هذا الواقع، يبدو أن تقليص الدفع النقدي ليس مجرد خيار اقتصادي، بل هو خطوة ضرورية لإنقاذ الاقتصاد الوطني من براثن التسيّب والفوضى المالية، ووضعه على مسار أكثر شفافية وكفاءة.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!

تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…