‫الرئيسية‬ الأولى قمة الناتو في هولندا.. عندما تتحوّل “الدفاعات المشتركة” إلى مسرح للتملّق الأمريكي
الأولى - الدولي - مقالات - 26 يونيو، 2025

قمة الناتو في هولندا.. عندما تتحوّل “الدفاعات المشتركة” إلى مسرح للتملّق الأمريكي

قمة الناتو في هولندا.. عندما تتحوّل "الدفاعات المشتركة" إلى مسرح للتملّق الأمريكي
تحوّلت قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، المنعقدة مؤخرًا في هولندا، من منصّة مخصصة لمناقشة التهديدات الأمنية المشتركة إلى ما يشبه مسرحًا سياسيًا يُعرَض فيه مشهد طويل من التملق الأوروبي للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي عاد بقوة إلى واجهة الاهتمام الدولي مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية. فبعد سنوات من التوتر بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، عادت لغة المهادنة من جديد لتتسلل إلى الخطابات الأوروبية، مخافة أن يعود ترامب إلى البيت الأبيض ويقلب الطاولة على الحلف الأطلسي.

في قلب هذا المشهد، تصدّر الأمين العام الجديد لحلف الناتو، الهولندي مارك روتي، واجهة التصريحات اللافتة بإعلانه أن الدول الأعضاء توافق على رفع إنفاقها الدفاعي ليصل إلى 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة. ويعدّ هذا الرقم قفزة ضخمة وغير مسبوقة، تتجاوز حتى مطلب ترامب في ولايته الأولى، حين طالب برفع الإنفاق الدفاعي إلى 2٪، وهو ما أثار جدلًا حينها، خصوصًا من دول ذات اقتصادات متوسطة.

لكن الجديد هذه المرة، أن المطلب يأتي لا من واشنطن، بل من داخل الحلف نفسه، في خطوة يُنظر إليها على أنها محاولة استباقية لاسترضاء ترامب واستباق عودته المحتملة إلى السلطة. ومع وجود 31 دولة عضو في الحلف، فإن الالتزام بهذه النسبة يعني تحويل مئات المليارات من الدولارات نحو الإنفاق العسكري، مما سيؤدي – بلا شك – إلى تضخيم أرباح شركات السلاح الأمريكية، باعتبارها المزود الرئيسي للأسلحة والمعُدّات المتطورة في السوق الأطلسية.

رغم طغيان نبرة المديح والتقرب من أمريكا، لم تغب الأصوات المعارضة تمامًا داخل الحلف. فقد عبّرت إسبانيا عن رفضها الضمني لهذه النسبة المرتفعة، ووصفتها بـ”غير الواقعية”، بينما أكدت بلجيكا أنها غير قادرة على بلوغها، حتى على المدى المتوسط، مشيرة إلى أنها لم تتمكن حتى الآن من تحقيق نسبة 2٪ التي فُرضت سابقًا، إذ لم تتجاوز سوى 1.6٪ من الناتج المحلي. هذا العجز في بلوغ الحد الأدنى من الالتزامات السابقة يكشف حجم الفجوة بين الطموحات الأمريكية ومتطلبات الحلفاء الأوروبيين الذين يواجهون أزمات اجتماعية واقتصادية خانقة.

تحت غطاء مواجهة التهديد الروسي المتصاعد، تحاول بعض الدول داخل الحلف تعزيز حججها لتوسيع الإنفاق العسكري، وفتح الباب أمام انضمام أوكرانيا إلى الناتو، في تحدٍّ مباشر لخطوط موسكو الحمراء. لكن هذا التوجه لا يحظى بإجماع داخلي، حيث لا تزال أصوات وازنة، خاصة في أوروبا الغربية، تحذّر من أن استفزاز روسيا في هذا التوقيت قد يتحوّل إلى كارثة أمنية شاملة، قد تعيد القارة إلى أجواء الحرب الباردة أو ما هو أسوأ.

ترى هذه الدول أن توسيع الحلف في هذا الظرف الحساس لا يخدم الاستقرار، بل يُغذي النزعة العدائية ويدفع روسيا إلى مزيد من التصعيد، خصوصًا وأن موسكو تعتبر انضمام كييف إلى الحلف تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. ومع غياب رؤية استراتيجية موحدة داخل الناتو، يبقى السؤال مطروحًا حول ما إذا كان الحلف يسير نحو تعزيز وحدته، أم أنه بات رهينة لمزاج الإدارة الأمريكية المقبلة.

ربما كان أكثر ما يلفت الانتباه في هذه القمة هو ما يمكن وصفه بـ**”الاحتواء العكسي”**: فبدلًا من أن تسعى واشنطن إلى ضبط مواقف الحلفاء الأوروبيين، بدا أن هؤلاء الأخيرين يسابقون الزمن لإرضاء الرئيس الأمريكي القادم، خشية أن يُفاجئهم مجددًا بقرارات جذرية، كتلك التي لوّح بها ترامب سابقًا، حين هدد بالانسحاب من الحلف الأطلسي برمته، واعتبر أن الولايات المتحدة لم تعد معنية بدفع “فاتورة الدفاع عن أوروبا”.

وفي هذا السياق، لم يكن مستغربًا أن يصرّح الرئيس الفرنسي بنفسه بأن “الغرب لا يزال بحاجة إلى الولايات المتحدة” لمواجهة التحديات الأمنية، في اعتراف ضمني بعجز أوروبا عن بناء قوة دفاعية مستقلة، رغم الدعوات القديمة لإنشاء جيش أوروبي موحّد.

بينما تتوجه الأنظار إلى روسيا، لا تُخفي دوائر القرار الأمريكية أن الصين تمثل العدو الجيوسياسي الأخطر على المدى الطويل، ما يطرح فرضية أن ترامب – إذا عاد إلى السلطة – قد يُفضّل الانسحاب التدريجي من الالتزامات الأوروبية، للتركيز على مواجهة بكين في المحيطين الهادئ والهندي. وقد أشارت تقارير استخباراتية غربية إلى أن الصين حققت تقدمًا لافتًا في عدة مجالات، من الذكاء الاصطناعي إلى الفضاء، وحتى في المجال العسكري، ما يجعلها منافسًا حقيقيًا لواشنطن، بل وربما متفوقة في بعض الجوانب.

ضمن فعاليات القمة، ينتظر أن يعقد الرئيس الأمريكي ترامب لقاءً مع نظيره الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، في محاولة أخيرة من هذا الأخير لضمان استمرار الدعم الأمريكي لكييف، خاصة بعد تراجع زخم المساعدات المالية والعسكرية في بعض العواصم الغربية. غير أن نجاح هذه المهمة يبقى موضع شك، خصوصًا وأن ترامب – خلال حملاته – لم يُخفِ تردده تجاه استمرار تمويل الحرب الأوكرانية، وعبّر مرارًا عن نيته إجبار الطرفين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ولو بقوة الأمر الواقع.

وسط هذا المشهد المرتبك، يبقى مصير الحلف الأطلسي معلّقًا على نتيجة الانتخابات الأمريكية المقبلة. فإما أن تستمر واشنطن في التزاماتها التقليدية، أو أن يُقدم ترامب على قلب الطاولة، ويُحدث زلزالًا جيوسياسيًا جديدًا يُعيد رسم خارطة التحالفات في العالم. وفي كلتا الحالتين، يبدو أن أوروبا تعيش اليوم أزمة ثقة استراتيجية عميقة، وتسير على حبل مشدود، بين الحفاظ على مظلة الدفاع الأمريكية، والسعي إلى بناء سيادتها الدفاعية المستقلة، وهي مهمة لم تُنجز منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء

صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…