‫الرئيسية‬ الأولى لماذا يقلق التقارب الجزائري–الأمريكي بعض الدوائر الفرنسية؟
الأولى - الحدث - الوطني - رأي - مقالات - ‫‫‫‏‫أسبوع واحد مضت‬

لماذا يقلق التقارب الجزائري–الأمريكي بعض الدوائر الفرنسية؟

لماذا يقلق التقارب الجزائري–الأمريكي بعض الدوائر الفرنسية؟
تواصل بعض المنابر الإعلامية الفرنسية إسقاط قراءات قديمة على واقع جيوسياسي جديد لا يشبه ما عرفته المنطقة قبل عشرين سنة، ولا حتى قبل عشر سنوات. فالتغيّرات العميقة التي تشهدها السياسة الخارجية الجزائرية تُقرأ في الصحافة الفرنسية، وبشكل متكرر، بأدوات تحليلية متقادمة وبمنطق وصائي يعكس ارتباطاً عاطفياً بتاريخ انتهى زمنياً وسياسياً. آخر هذه القراءات ما اعتبر أن التقارب الجزائري–الأميركي الحالي «حملة تقارب دبلوماسي» هدفها استمالة إدارة ترامب، في محاولة لتصوير الجزائر وكأنها تبحث عن غطاء أو مخرج من عزلة مزعومة.

هذه المقاربة لا تضع الأمور في سياقها الصحيح، بل تكشف حالة إنكار لواقع قوي، الجزائر لم تعد تتحرك من داخل المدار الفرنسي، ولم تعد تراعي الرمزية العاطفية التي تحاول باريس فرضها على علاقتها بالمنطقة. الجزائر اليوم تتصرف بمنطق الدول الصاعدة، مدركة لتوازنات عالم يتغيّر بسرعة، ومتمسكة بسيادتها السياسية التي كانت، تاريخياً، جوهر هويتها الدبلوماسية. وبذلك، فإن تصوير هذا التحرك الدبلوماسي الطبيعي على أنه محاولة «غزل سياسي» يعبّر قبل كل شيء عن شعور فقدان النفوذ الذي تعرفه فرنسا في أفريقيا ومنطقة الساحل.

المقال الفرنسي يتعامل مع تصريحات السفير الجزائري صبري بوقادوم أمام Stimson Center وكأنها موقف خارق للعادة، بينما هي في الحقيقة امتداد لمنهج واضح تبنّته الجزائر منذ سنوات، تنويع الشراكات الدولية، بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى، وتوسيع مساحات الحركة الخارجية دون الارتهان لأي محور. الجزائر، بخلاف ما يوحي به الخطاب الفرنسي، ليست بصدد بناء «بديل استراتيجي» عن روسيا، ولا «قطع شعرة معاوية» مع أوروبا، بل تبني علاقة متوازنة مع الولايات المتحدة في ملفات محددة تستدعي التعاون، أبرزها مكافحة الإرهاب، أمن الطاقة، أمن المتوسط، وتحديات الساحل.

ولكي نفهم لماذا يتكرر هذا التوتّر الفرنسي تجاه تحركات الجزائر، يجب العودة إلى طبيعة العلاقة التاريخية بين البلدين. ففرنسا تعرف أن الجزائر ليست دولة تابعة، ولم تكن كذلك يوماً، حتى عندما كانت باريس تسعى لجعلها جزءاً من منظومتها الاقتصادية والسياسية في الثمانينيات والتسعينيات. الجزائر قاومت ذلك بشدة، ورفضت الاندراج في أي محور، بل جعلت من «الاستقلالية الاستراتيجية» حجر الأساس لسياستها الخارجية، ولذلك تجد باريس اليوم صعوبة في قبول خروج الجزائر من دائرة تأثيرها، خاصة بعدما أصبحت هذه الأخيرة أكثر حضوراً في الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والقضايا العربية.

النزاعات التي أشار إليها المقال مع المغرب وإسبانيا ومالي وفرنسا ليست مؤشرات عزلة، بل دليل على ثبات الموقف الجزائري. الجزائر رفضت التطبيع مع “إسرائيل” حفاظاً على نهجها التاريخي في دعم القضية الفلسطينية، ورفضت الموقف الإسباني الأحادي حول الصحراء الغربية لأنه خرج عن الشرعية الدولية، ورفضت الوجود العسكري الفرنسي في الساحل لأنه أثبت فشله، ورفضت الارتزاق المسلح قرب الحدود لأنه يهدد الأمن القومي. كل هذه قرارات سيادية لا تتطلب «ترخيصاً» من أحد. لكنّ بعض الأقلام الفرنسية لا تزال تقرأ الموقف الجزائري كتمرّد على باريس، وليس تعبيراً عن استقلال سياسي أصيل.

وحتى عندما تناول المقال العلاقة الجزائرية–الروسية، حاول تصويرها كعلاقة «باردة»، متناسياً أن الجزائر شريك لموسكو في مجالات عسكرية وتكنولوجية منذ عقود، لكنها ليست رهينة لها. الجزائر تشتري السلاح من روسيا لأنها تحتاجه، وتنسق معها لأنها قوة موجودة في المتوسط، لكنها في الوقت نفسه ترفض وجود أي قوات أجنبية قرب حدودها، سواء كانت فرنسية أو روسية أو أمريكية. إن عقيدة الجزائر الأمنية قائمة على “السيادة المطلقة” ورفض إنشاء قواعد أو استقبال جيوش أجنبية، وهذا ثابت منذ الاستقلال، لا علاقة له بالتقارب مع أي طرف.

التحرك الجزائري تجاه الولايات المتحدة ليس سوى امتداد طبيعي لهذه البراغماتية السيادية. الجزائر تعرف أن واشنطن لاعب لا يمكن تجاهله في ملفات الطاقة والأمن والاقتصاد. والولايات المتحدة بدورها تدرك أهمية الجزائر كقوة استقرار في شمال إفريقيا والساحل وكدولة تمتلك جيشاً قوياً وحدوداً حيوية واحتياطات طاقة وكلمة وزن في القضايا العربية والأفريقية. لذلك، فإن محاولة تصوير هذا التقارب كأنه «قفزة في الظلام» تتجاهل حقيقة أن واشنطن هي من رفعت مستوى التعاون، وليس الجزائر هي من طلبته.

السؤال الحقيقي الذي تجاهله المقال، لماذا يقلق هذا التقارب بعض الدوائر الفرنسية؟ الجواب بسيط وعميق في الوقت نفسه. لأن فرنسا ترى في توسّع نفوذ الجزائر وتنوع شراكاتها نهاية لدورها التقليدي في أفريقيا والمتوسط. ولأن الجزائر لم تعد تحتاج المرور عبر باريس لتحدد موقفها من أي ملف. ولأن الدول الصاعدة لم تعد تقبل دور “الشريك الأصغر”، وباريس تجد صعوبة في استيعاب هذا التحول. ثم لأن النفوذ الفرنسي في الساحل انهار بشكل واضح بعد فشل عملية «برخان»، ودخول لاعبين جدد مثل روسيا وتركيا، وبقاء الجزائر اللاعب الإقليمي الأبرز الذي يتحكم في منطق الاستقرار.

أما الحديث عن «عزلة جزائرية»، فهو قلب للواقع. الجزائر ليست في عزلة، بل فرنسا هي التي تواجه عزلة حقيقية جنوب الصحراء وفي المغرب العربي. الجزائر تتحرك بثقة، بينما باريس تتحرك برد فعل. وهذا ما يفسر التوتر المتكرر في الخطاب الإعلامي الفرنسي تجاه أي خطوة جزائرية مستقلة.

ما تصفه بعض المنابر الفرنسية بأنه “حملة تقارب” هو في الحقيقة سياسة خارجية ناضجة لدولة تعيد تموضعها في عالم مضطرب. وما تسميه «عزلة» ليس إلا رفضاً للخضوع للمحاور. وما تحاول تصويره كـ«انحراف» عن الخط التقليدي، ليس سوى انتقال طبيعي لدولة صاعدة تعرف جيداً من أين تبدأ، وإلى أين تريد الوصول.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

صناعة السيارات: الحكومة تشدد القواعد

أكد وزير الصناعة، يحيى بشير، اليوم الخميس، أن الجزائر دخلت مرحلة حاسمة في مسار إعادة بناء …