محور الجزائر–إيطاليا يغيّر قواعد اللعبة في المتوسط
حين أبرمت الجزائر وإيطاليا سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية في روما خلال صيف 2025، بدا المشهد السياسي مُحمّلًا بالكثير من الرمزية والدلالات. لم يكن الأمر يتعلق بمجرد تبادل مصالح بين دولتين، بل بإعادة رسم خرائط النفوذ في شمال إفريقيا والضفة الجنوبية للمتوسط. الجزائر، التي كانت تُصنَّف لعقود كمنطقة نفوذ فرنسية بامتياز، تقف اليوم في موقع الشريك الندّي لإيطاليا، مُعلنة بذلك عن نيتها القطع مع سياسة المحور الواحد، وفتح آفاق تعاون متعدد مع قوى دولية لا تُحمّل العلاقة بأعباء الاستعمار، ولا تُقايض التاريخ بالامتياز. هذا التوجّه يحمل في ظاهره مصلحة واضحة للجزائر، ويُشكل لحظة سيادية تستعيد بها زمام المبادرة في علاقاتها الدولية. لكنه في المقابل، يتطلب قدرًا عاليًا من اليقظة السياسية حتى لا يتحوّل، ولو من دون قصد، إلى شكل جديد من التموقع غير المتوازن داخل استقطابات أوروبا المنقسمة.
الاتفاق الجزائري–الإيطالي يبدو إيجابيًا من عدة زوايا. فهو من جهة يتيح للجزائر فرصة الخروج من العباءة الفرنسية التي طالما كبّلت القرار السياسي والاقتصادي الجزائري، وأبقت العلاقة في إطار من التبعية الرمزية والمصلحية. لم يكن الاقتصاد الجزائري مع فرنسا متكافئًا في أي مرحلة، بل مبنيًا على إرث تاريخي يفرض على الجزائر التعامل مع باريس كـ “مرجعية قسرية” لا كشريك اقتصادي عقلاني. في المقابل، إيطاليا لا تملك نفس الحمولة الاستعمارية، ولا تفرض على الجزائر شروطًا سياسية للتعاون. ما تبحث عنه روما هو الغاز، الطاقة، والاستقرار في الحوض المتوسطي، وهي معادلة مقبولة جزائريًا، لأنها تؤمن المصالح دون تدخل سياسي، وتُبنى على أساس “المقابل لا الموقف”. حين تُوقّع الجزائر اتفاقيات توريد غاز واستثمارات في البنية التحتية مع شركة “إيني”، فإنها تحتفظ بكامل سيادتها، وتحقق مدخولًا ثابتًا في سياق تقلبات السوق العالمية.
لكن ما يبدو مريحًا على الورق، لا يُعفي من قراءة دقيقة لموازين القوى. فإيطاليا، بقيادة حكومة يمينية محافظة، ليست خارج الاستقطاب الأوروبي والدولي. رئيسة وزرائها، جورجيا ميلوني، تنتمي إلى تيار يفضّل الواقعية التجارية، لكنه لا يُخفي أجندة توسعية أوروبية من نوع جديد. لذلك فإن الشراكة الاقتصادية معها – رغم نفعيتها الظاهرية – قد تنزلق إلى شكل من التوظيف السياسي، خصوصًا إذا لم تُرفق بتوازن صارم في إدارة العقود، وبتنويع للشركاء الدوليين لتجنّب الارتهان. الجزائر لا يمكنها، ولا ينبغي لها، أن تستبدل تبعية بأخرى. إذا كان الغاز قد أعطى هامش مناورة كبيرًا في التفاوض مع روما، فإن الاعتماد شبه الكامل على هذا المورد يُهدد أي سياسة اقتصادية مستقلة في المدى المتوسط. لا يمكن لدولة تريد بناء مشروع وطني فعلي أن تكتفي بعائدات طاقوية، مهما بلغت قيمتها. وحدها استراتيجية متكاملة تربط الغاز بالتصنيع، والاستثمار بالإصلاح الداخلي، تُحوّل هذه الاتفاقيات من عقود تجارية إلى قاطرة تنموية.
في السياق الجيوسياسي، ما يُقلق فرنسا ويقلق الغرب عمومًا ليس فقط مضمون الاتفاق الجزائري–الإيطالي، بل ما يُشير إليه من تحوّل في العقل السياسي الجزائري. الجزائر التي كانت يومًا جزءًا من “الهامش الفرنكوفوني” باتت تُفكّك هذا الهامش خطوة خطوة، دون صخب، لكن بإصرار. تارة عبر خفض الاعتماد على اللغة الفرنسية في الإدارة، وتارة عبر رفض التدخل الفرنسي في ملفات مثل التأشيرات والهجرة، واليوم عبر هندسة علاقات ثنائية بديلة مع دول أوروبية أخرى. باريس تُدرك أن ما يجري ليس لحظة تفاوض ظرفية، بل انتقال تدريجي من علاقة وصاية إلى علاقة اختيار. ولهذا السبب، فإن حجم القلق الفرنسي ليس اقتصاديًا فقط، بل ثقافيًا واستراتيجيًا، لأن الجزائر، إن واصلت هذا النهج، ستُجبر فرنسا على التعامل معها كدولة لا كـ”مستعمرة سابقة ذات ولاء عاطفي”.
ومع ذلك، فإن السيادة لا تُقاس فقط بالتحرر من النفوذ، بل بالقدرة على بناء نموذج خاص. اتفاق الجزائر مع إيطاليا لا يكون مكسبًا فعليًا إلا إذا استُثمر داخليًا، وتم تحويله إلى محرك لإصلاح اقتصادي وهيكلي حقيقي. من الخطأ اعتبار العقود الطاقوية نصرًا بحد ذاتها. النصر يتحقق حين يُترجم هذا الدخل إلى صناعة وطنية، وبنية تحتية منتجة، وتحول ديمغرافي يُعيد توزيع الثروة داخل البلاد، لا مجرد إعادة تدوير الريع في صورة استهلاك أو دعم ظرفي. كما أن الشراكة مع روما ينبغي أن تُقرأ كحلقة ضمن سلسلة، لا كبديل وحيد. فإذا أرادت الجزائر أن تبني سيادتها الخارجية على أسس صلبة، فعليها أن تُعمّق شراكاتها مع بلدان متعددة الاتجاهات، الصين، تركيا، روسيا، أمريكا اللاتينية، بل وحتى بعض دول شمال أوروبا، لتُكمل بذلك مشهد استقلال القرار لا الاكتفاء بشريك جديد في معادلة قديمة.
الاتفاق الجزائري–الإيطالي، إذًا، هو فرصة تاريخية بلا شك، لكنه امتحان أيضًا. امتحان لقدرة الجزائر على هندسة مصالحها بعيدًا عن الذاكرة الاستعمارية، وامتحان لوعيها بالتحولات الدولية التي لا ترحم الدول الهشّة، وامتحان داخلي لمدى التزامها بتحويل هذه الشراكات إلى تنمية لا إلى تبعية جديدة. إن الاختبار الأكبر ليس في عقد الاتفاقات، بل في إدارة ما بعد الاتفاق. وهنا فقط يُقاس مدى ذكاء السيادة.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!
تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…