‫الرئيسية‬ في الواجهة أحوال الناس أحوال الجالية مرسيليا ترقص على أنغام الراي… واليمين الفرنسي يغلي غضبًا

مرسيليا ترقص على أنغام الراي… واليمين الفرنسي يغلي غضبًا

مرسيليا ترقص على أنغام الراي… واليمين الفرنسي يغلي غضبًا
تحوّل ميناء “لو فيو-بور” العريق في مدينة مرسيليا الفرنسية إلى مسرح مفتوح للاحتفال، حيث اهتزّت المدينة بأكملها على أنغام الراي والموسيقى المغاربية التي حملت توقيع اثنين من أبرز نجوم الأغنية الجزائرية المعاصرة، كادر جابوني وأمين بابيلون. الحدث، الذي نُظم في إطار برنامج “صيف مرسيليا” السنوي، استقطب أكثر من 45 ألف شخص، جاؤوا من مختلف الأحياء والمناطق، من أبناء مرسيليا الأصليين والجاليات المغاربية، وصولًا إلى السيّاح الموسميين الذين توافدوا على المدينة بحثًا عن لحظات استرخاء ومتعة فنية.

كان المشهد مدهشًا بكل المقاييس، حشود ضخمة تملأ ساحة الميناء، تردد الأغاني بكلماتها الجزائرية والفرنسية، ترقص بلا تحفظ، وترفع الأعلام وتحتفل بروح المتوسط المنفتحة. لم يكن الأمر مجرد حفل موسيقي عابر، بل أقرب إلى لحظة هوية جماعية، تعيد التذكير بأن مرسيليا ليست فقط مدينة فرنسية، بل هي ملتقى حضاري وثقافي عابر للحدود والقوميات. أغانٍ مثل “نعشقك” و”زلزال” و”يا الزينة” تحوّلت إلى أناشيد شعبية تصدح من مكبرات الصوت وتتردد في قلوب الجماهير، التي وجدت في هذا الحفل مساحة نادرة من الانتماء والمصالحة مع الذات والثقافة والذاكرة.

لكن هذه الفرحة الشعبية لم تكن محل ترحيب لدى الجميع. فقد أثار الحفل عاصفة سياسية، تحديدًا من أوساط اليمين الفرنسي، الذي رأى في استضافة فنانين جزائريين في قلب مرسيليا خطوة “استفزازية” في توقيت دبلوماسي اعتبره البعض حساسًا. نائبة رئيس حزب “الجمهوريين” اليميني، كاترين بيلا، وجّهت رسالة انتقادية مباشرة إلى عمدة المدينة، بينوا بايان، استنكرت فيها “وضع فن جزائري في قلب المشهد الثقافي لمدينة فرنسية” – كما عبّرت – في وقت تمر فيه العلاقات بين باريس والجزائر بمناخ من التوتر بسبب قضايا سياسية وحقوقية، من بينها سجن صحفيين وكتاب يحملون الجنسية الفرنسية داخل الجزائر.

بيلا لم تكتف بالتعبير عن استيائها من البرنامج الفني، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، حين طالبت بالكشف عن مصادر تمويل الحفل، ملمّحة إلى أن الحدث لا يعبّر عن “المزاج العام” لسكان المدينة، وأن اختيار كادر جابوني وأمين بابيلون كان يحمل في طيّاته رسائل سياسية مرفوضة. هذا النوع من الخطابات عكس التوتر المتصاعد داخل فرنسا حول مسألة الهوية والانتماء، حيث تحوّلت الأنشطة الثقافية والفنية إلى ساحات مواجهة رمزية بين تيارات الانفتاح من جهة، وأصوات التوجس والانغلاق من جهة أخرى.

الرد على هذه الاتهامات لم يتأخر. فقد دافعت بلدية مرسيليا بقوة عن الحفل، ووصفت ما جرى بأنه نجاح باهر يعكس طبيعة المدينة الحقيقية. وجاء صوت الدفاع الأبرز من نائبة العمدة سامية غالي، التي شددت على أن مرسيليا ليست فقط مدينة فرنسية، بل هي أيضًا مدينة متوسطية، حاضنة لثقافات متعددة، وأن ما حدث لم يكن استفزازًا لأحد، بل احتفالًا بالتنوع، جمع بين أبناء مرسيليا بكل أطيافهم، في لحظة وحدت الناس بدل أن تفرّقهم. كلمات غالي جاءت انعكاسًا لفهم عميق لطبيعة المدينة التي تحتضن أحياءً تنطق بالعربية والفرنسية والبربرية في آنٍ معًا، وتعيش تاريخًا مشتركًا مع الضفة الأخرى من المتوسط، لا يمكن اختزاله أو إنكاره.

المفارقة أن الجمهور، الذي حضر بأعداد ضخمة، لم يهتم لكل هذا الجدل السياسي والإعلامي. بالنسبة له، كانت تلك الليلة مناسبة نادرة ليشعر بالانتماء. لقد شاهد نفسه ممثَّلًا على خشبة المسرح، سمع لغته ولهجته، ورقص على أنغام طفولته، دون شعور بالغربة أو التهميش. في ظل تصاعد الخطابات المتشددة، يصبح لمثل هذه اللحظات وزن معنوي كبير، لأنها تعيد الاعتبار لجزء من الهوية المتجاهَلة، وتمنح الناس فسحة للتعبير عن ذاتهم من دون خوف أو وصاية.

في النهاية، لم يكن الحفل مجرد عرض فني، بل كان لحظة سياسية واجتماعية بامتياز، سلّطت الضوء على التصدعات العميقة داخل المجتمع الفرنسي، وعلى معركة القيم والهويات التي لا تزال تُخاض في الميادين الثقافية قبل أن تُخاض في المؤسسات السياسية. مرسيليا، كما جرت العادة، كانت أول من يعلن موقفها من دون خطب أو شعارات: عبر الموسيقى والفرح والرقص، ومن دون أن ترفع صوتها كثيرًا، قالت إن التعدد ليس خطرًا بل غنى، وأن الفن لا يعترف بالحدود التي تفرضها السياسة.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!

تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…