‫الرئيسية‬ الأولى مقري .. والسراب الاخواني
الأولى - الوطني - مقالات - 4 أكتوبر، 2025

مقري .. والسراب الاخواني

مقري .. والسراب الاخواني
أطلق عبد الرزاق مقري، الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم، تصريحاً مثيراً للجدل من على متن أحد قوارب “أسطول الصمود” المتجه نحو غزة. لحظة كان يُفترض أن تكون رمزاً للتضامن مع الشعب الفلسطيني تحولت على لسانه إلى منصة لتمجيد أردوغان وتركيا، متجاهلاً علم الجزائر وتاريخها العريق في نصرة القضايا العادلة. لم يكن المشهد دفاعاً عن فلسطين بقدر ما كان ترديداً لولاء إخواني تقليدي لزعيم أجنبي، ولاءٌ يتقدّم دائماً عند هذا التيار على الانتماء للوطن.

هذا السلوك ليس معزولاً، بل امتداد لإيديولوجيا أسسها حسن البنا، حين صاغ مقولته الشهيرة أن الوطن مجرد “حفنة تراب عفنة”، واضعاً فكرة “الأمة” فوق الدولة الوطنية. عقيدة جعلت من الإخوان تنظيماً عابراً للحدود، يرى في كل قطر محطة لا أكثر. وإذا كان البعض يظن أن الزمن كفيل بطيّ هذه العقيدة، فإن تصريحات مقري جاءت لتؤكد أن الفكرة لا تزال حية، وأن مشروعهم لا يعرف الجزائر إلا كأداة ضمن ولاء خارجي دائم.

لكن الجزائر ليست “حفنة تراب”.. الجزائر وطن صاغ استقلاله مليون ونصف المليون شهيد، وكتب هويته من نوميديا العظيمة إلى ثورة نوفمبر المجيدة. أي تقزيم لتاريخها أو وضعه في مرتبة ثانوية أمام زعماء وأعلام خارجية ليس إلا خيانة رمزية لذاكرة الأمة وتضحيات أبنائها. الوطنية الجزائرية ليست شعاراً في منبر ولا خطبة على قارب، بل دماء سالت لتحرير الأرض وصون السيادة.

والمفارقة الكبرى أن هذا الخطاب جاء بعد أيام فقط من فضيحة مدوية بطلها نائب عن الحركة نفسها، عبد الوهاب يعقوبي، الذي ظهر في أروقة الأمم المتحدة يوم 24 سبتمبر 2025 وهو يجالس مجلي وهبي، أحد أعمدة الدبلوماسية الصهيونية، رئيس دولة مؤقت سنة 2007، نائب وزير خارجية، وسفير متنقل مكلف بملفات المتوسط. الرجل الذي حاول النائب التمويه على هويته وادعى أنه “ممثل طائفي” ليس شخصية عابرة، بل من كبار الوجوه التي نسجت علاقات الاحتلال مع دول عربية. اللقاء لم يكن خطأ بروتوكولياً بل سقوطاً سياسياً فاضحاً، ومحاولة إخفائه لم تكن سوى تغطية مرتبكة على خيانة علنية للقضية الفلسطينية.

وهكذا تكتمل الصورة، حركة ترفع شعار نصرة فلسطين بينما نوابها يجالسون رموز الاحتلال، ورئيسها السابق يهتف لأردوغان من على قارب التضامن. وفي المقابل، كانت الدولة الجزائرية، عبر رئيس بعثتها في الأمم المتحدة عمار بن جامع، تصدح بموقف واضح وصلب دفاعاً عن فلسطين، انسجاماً مع مواقف الجزائر الثابتة التي يقودها الرئيس عبد المجيد تبون، الذي جعل من دعم القضية الفلسطينية خياراً استراتيجياً للدبلوماسية الجزائرية. مفارقة تكشف من الذي يلتزم بخط التحرر، ومن الذي يلهث وراء ولاءات عابرة.

يبقى السؤال الكبير الذي يطرح نفسه، ما الذي قصده مقري حين هتف بحياة الأتراك وأردوغان؟ هل كان يهتف لـ”زعيمٍ” لم يتوقف عن مدّ جسور التعاون مع إسرائيل، حتى صار أحد أكثر حلفائها قرباً في المنطقة؟ أم كان يهتف للرجل الذي فتح حدود بلاده لتمرير آلاف المقاتلين الإرهابيين إلى سوريا، ليسهم في تمزيقها وتحويلها إلى ساحة حرب مدمّرة؟ أم أنه يهتف لمن جعل من ليبيا مسرحاً لصراعاته وأجنداته، فزاد أوضاعها تعقيداً وألقى بنار الفوضى على حدود الجزائر الغربية والجنوبية؟ أم لعلّه يهتف اليوم للدور الذي يلعبه أردوغان في مالي، حيث تمدّ أنقرة بالسلاح طغمةً انقلابية تهدد بشكل مباشر أمن الجزائر القومي وحدودها الجنوبية الحساسة؟

أي معنى يبقى لهذا الهتاف إذا وضعنا في الحسبان أن أردوغان نفسه هو الذي لم يتردد في فتح أبواب التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأنه في كل منعطف كان مستعداً لمقايضة المبادئ بالمصالح؟ وأي منطق يمكن أن يبرر رفعه فوق الجزائر وهو الذي سخّر أراضيه ومطاراته وموانئه لتكون معبراً للجماعات الإرهابية نحو المشرق؟ وها هو اليوم يمد نفوذه إلى شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، ساعياً إلى تثبيت موطئ قدم في جوار الجزائر.

أليس في كل ذلك استخفافاً بعقول الجزائريين؟ أليس هتاف مقري لأردوغان في لحظة كان يفترض أن تكون صوتاً لفلسطين إهانة صريحة لدماء الشهداء الذين حرروا الجزائر بدمائهم؟ وهل يمكن أن يقبل شعبٌ قاوم الاستعمار قرناً وثلث القرن أن يُختزل صوت بعض ممثليه في تبجيل زعيم أجنبي لا يربطه بالجزائر سوى مصالح عابرة؟

وإذا كان نائب من “حمس” قد اختار أن يجالس رموز الكيان في الكواليس، ورئيسها السابق يرفع أردوغان فوق الجزائر في العلن، فما الذي تبقى من هذا الخطاب إن لم يكن سقوطاً مدوياً أمام ذاكرة الوطن؟ ولعلنا لا نملك إلا أن نرجو من مقري، وهو اليوم في قبضة جنود بني صهيون حلفاء أردوغان، أن يرفع صوته هناك كما رفعه على متن القارب، وأن يستنجد بزعيمه لينقذه، فلعل هتافه “يحيا أردوغان” يجد صداه عند من لم يتوقف يوماً عن اغتصاب الأرض واستباحة الدماء.

الجزائر لا تهتف إلا لشعبها ولشهدائها، ولا ترفع إلا علمها، ولن تسمح بأن يُختطف صوتها في قوارب أو أروقة مشبوهة لخدمة أجندات أجنبية. أما الولاءات العمياء والخطابات الممجّدة لغير الوطن، فمصيرها أن تنكشف، لأن الجزائر كانت وستظل أكبر من أي مشروع عابر للحدود.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

صناعة السيارات: الحكومة تشدد القواعد

أكد وزير الصناعة، يحيى بشير، اليوم الخميس، أن الجزائر دخلت مرحلة حاسمة في مسار إعادة بناء …