مقري يستثمر دماء غزة لاستهداف الموقف الجزائري
من يتابع طريقة عبد الرزاق مقري في التعاطي مع الأحداث الوطنية والدولية، يلمس بسهولة ذلك الإصرار العميق على قراءة الواقع من زاوية واحدة، زاوية المظلومية الإخوانية التي ترى في الدولة الوطنية خصماً دائماً وفي المواقف السيادية مؤامرة وفي أي اختلاف “خضوعاً” أو “تخلياً”. وما يطرحه اليوم حول الموقف الجزائري من قرار مجلس الأمن ليس سوى حلقة جديدة من هذا الخطاب الذي يتغذّى على التوتر، ويتنفس مناخات التصعيد، ويبحث عن أي فرصة لجرّ التيار الإخواني إلى حالة استنفار ضد خيارات الدولة.

فمقري لا يناقش القرار الدولي كسياسي، بل يتعامل معه كأداة اتهام، وكأن الجزائر تخلّت فجأة عن تاريخها في دعم فلسطين، وكأن القرار الأممي إعلان استسلام، بينما الحقيقة أن الدبلوماسية الجزائرية تشتغل ضمن معادلات معقدة لا يراها من اختزل السياسة في هتاف. هذا النوع من التهويل لا يخدم فلسطين ولا يخدم الجزائر، بل يخدم فقط خطاباً يرفض الاعتراف بأن الدولة تُقرر باعتبارها دولة، لا باعتبارها جناحاً من أجنحة التنظيم.
ومع هذا الهجوم على موقف الجزائر، لا يفوّت مقري فرصة إحياء أسلوبه القديم في صناعة الخصوم الوهميين. فكل رأي يخالف رأيه يتحول في نظره إلى “ذباب إلكتروني”، وكل نقد يصبح “هجوماً منظماً”، وكل اختلاف يتحول فجأة إلى حملة موجهة من جهات خفية. هذا ليس نقاشاً سياسياً، بل أسلوب في إلغاء المجتمع، طريقة مريحة لتبرير رفض أي صوت لا ينصاع لسرديته. إن من يعتبر كل مخالفيه “ذباباً” إنما يعترف ضمنياً بأن أفكاره لم تعد تقنع أحداً.

لكن جوهر المشكلة أعمق من الأسلوب، فهو ممتدّ إلى المرجعية الفكرية التي يتكئ عليها مقري. فالفكر الإخواني، الذي انطلق منه وانتمى إليه، لم ينظر يوماً إلى الوطن باعتباره قيمة نهائية، بل لطالما وضعه في مرتبة ثانية أمام الولاء للجماعة. وقد لخّص هذا الموقف، عبر عقود، في العبارة الشهيرة : أنّ الوطن ليس إلا “حفنة من تراب عفن”. ورغم الجدل حول مصدر النص الحرفي للعبارة، فإن جوهرها يعكس بدقة الرؤية التي رسّخها سيد قطب، أحد أهم منظّري الفكر الإخواني المتطرف، عندما اعتبر أن الحدود الوطنية ليست سوى تقسيمات استعمارية، وأن الانتماء الحقيقي يجب أن يكون للحركة، لا للأرض.
هذه الرؤية لم تبقَ حبيسة الكتب، بل تحولت في كثير من الدول إلى محرك لزرع الفوضى، حيث تعاملت الجماعات الإخوانية مع الدولة كعقبة تُعرقل مشروعها، ومع الأوطان كأوعية مؤقتة لا تستحق الولاء إذا تعارضت مع مصلحة التنظيم. ومن هذا المنطلق نفسه يمكن فهم الطريقة التي يخاطب بها مقري الدولة الجزائرية اليوم، لا ينطلق من منطق الدولة الوطنية، بل من منطق فوق–وطني يرى في خيارات الدولة “انحرافاً” عن ما يتصوره هو “ثوابت”، وكأن شرعية الوطن أقل قيمة من شرعية الجماعة.
وما يزيد الأمر خطورة أن مقري لا يكتفي بالتجييش السياسي، بل يتبنى خطاباً يجمّل الكارثة ويحوّلها إلى انتصار. إن إصراره على وصف ما حدث في غزة بأنه “مقاومة وانتصار” هو تجاوز صارخ للحقيقة واعتداء على ذاكرة شعب دُكّت مدنه وقُطّعت أوصاله. فأين هو الانتصار حين تتحول غزة إلى ركام؟ أين المقاومة حين يفقد الفلسطينيون كل عناصر الحياة؟ أي بطولة تلك التي تُقدّم موت الأطفال على أنه “صمود”؟ إن هذا التزييف لا يخدم أي مشروع وطني، بل هو تكرار لأزمة إخوانية مزمنة، تحويل الهزيمة إلى دعاية، والدمار إلى انتصار معنوي، والمأساة إلى مادة للتجييش.
إن الجزائر دولة لها وزنها وقرارها وسيادتها وتاريخها، أكبر بكثير من أن يحاول أحد توريطها في سياق إخواني ضيق أو جرجرتها إلى مواجهة مفتعلة تحت لافتة فلسطين. الدولة الجزائرية دعمت فلسطين قبل وجود كثير من الحركات، وستدعمها بعد أفولها. وما يفعله مقري اليوم ليس دفاعاً عن فلسطين، بل استثمار مشاعر الجزائريين تجاهها لإنتاج حالة احتقان داخلية، وهو سلوك يُكرّر ما فعله التنظيم في دول أخرى حين استخدم القضايا المقدسة كأدوات لتوسيع الشرخ مع الدولة.
ويبقى الفرق واضحاً بين الدولة وبين الحركات، الدولة تتحرك وفق مصلحة وطنية، والحركات تتحرك وفق مصلحة تنظيمية. الجزائر تعرف جيداً أين تقف، وتعرف قيمة الوطن وقيمة فلسطين. أما عبد الرزاق مقري، فإن خطابه لا يكشف إلا شيئاً واحداً، محاولة الالتفاف على الدولة الجزائرية عبر المزايدة عليها، واستدعاء تراث إخواني متهالك فقد بوصلة الوطن منذ أن قرر بعض منظّريه أن الأرض مجرّد حفنة من تراب عفن … وأن الجماعة أهم من الوطن.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
عطّاف يطيح بمحاولات الإخوان لتلغيم الموقف الجزائري
اختارت الجزائر أن تقدّم موقفها بوضوح وشفافية من خلال ندوة صحفية عقدها وزير الشؤون الخارجي…






