من التعاون الأمني إلى الهجرة والدين: تفاصيل “الصراع الخفي” الذي تقوده فرنسا ضد الجزائر
نشرت صحيفة “ليكسبراس” (L’Express) الفرنسية مقالاً تناولت فيه ما وصفته بـ”الحرب الهجينة” التي تزعم أن الجزائر تشنها ضد فرنسا. وفقًا لهذا المقال، تشمل هذه الحرب تخفيض مستوى التعاون الأمني والدبلوماسي، حيث اعتُبرت هذه الخطوات استراتيجية عدائية تهدف إلى زعزعة العلاقات الثنائية. لكن هذا التوصيف يبدو بعيدًا عن الواقع، إذ إن قرارات الجزائر في هذا السياق تنبع من حقها السيادي في اتخاذ التدابير التي تخدم مصالحها الوطنية.
من الملفات الأمنية إلى الهجرة والدين، يبدو أن الجزائر لا تدافع فقط عن حدودها الجغرافية، بل أيضًا عن استقلال قرارها السياسي، في مواجهة بلدٍ لا يزال يرى نفسه وصيًا على دول المنطقة.
تدهورت العلاقات الجزائرية-الفرنسية بشكل ملحوظ منذ أزمة التأشيرات التي بدأت في سبتمبر 2021، عندما قررت فرنسا خفض عدد التأشيرات الممنوحة لمواطني الجزائر وتونس والمغرب. كان هذا القرار محاولة للضغط على هذه الدول لحثها على التعاون في مكافحة الهجرة غير الشرعية. ومع ذلك، أدى هذا الإجراء إلى تقليص مستوى التعاون الأمني بين الجزائر وفرنسا، حيث قلّت المعلومات الأمنية التي تقدمها الجزائر، ما أثّر سلبًا على التنسيق الأمني، خصوصًا في ظل استعدادات فرنسا لاستضافة أولمبياد 2024.
بحلول صيف 2024، تدهورت العلاقات بشكل أكبر، حيث انعكس ذلك على تدفق المعلومات الأمنية بين البلدين. وضمن هذا السياق، أُثيرت اتهامات من بعض الأطراف الفرنسية بأن الجزائر تتبنى مواقف عدائية تجاه باريس، معتبرين أن هذه الخطوات تشبه ما يسمى بـ”الحرب الهجينة” التي تُنسب عادةً إلى روسيا في تعاملها مع الغرب.
في هذا الإطار، وحسب الجريدة الفرنسية، أعرب الرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي الفرنسي (DGSI) عن إحباطه من هذا التراجع في التعاون الأمني. خلال لقاء غير رسمي مع مسؤول بارز في وزارة الداخلية الفرنسية، عبر خلاله عن قلقه من توقف قنوات التواصل التقليدية بين الأجهزة الأمنية الجزائرية والفرنسية، والتي كانت تُبقي باب التعاون مفتوحًا رغم الأزمات. هذا التوقف اعتُبر تحديًا جديدًا يضاف إلى قائمة العقبات التي تواجه الأمن الفرنسي، خاصة مع التحديات الإقليمية المتصاعدة.
قرار الجزائر بخفض أو تعليق التنسيق الأمني مع فرنسا لا يمكن اعتباره خطوة هجومية، بل هو رد فعل سيادي على سياسات فرنسية استهدفت المصالح الجزائرية، أبرزها قرار تقليص التأشيرات بشكل أحادي ودون التشاور. هذه السياسات أثارت استياءً شعبيًا ورسميًا في الجزائر، دفعت السلطات الجزائرية إلى اتخاذ مواقف تتماشى مع حماية مصالحها الوطنية. ومن هنا، فإن وصف هذا السلوك بـ”الحرب الهجينة” يبدو غير متوافق مع حقائق الوضع.
اعتبر المقال في صحيفة “ليكسبراس” أن الجزائر قلّصت تعاونها في ملف الهجرة كرد فعل على السياسات الفرنسية الأخيرة. لكن هذا الطرح يغفل تعقيدات هذا الملف، خاصة أن الجزائر طالبت مرارًا بحلول عادلة وشاملة لقضية الهجرة، مؤكدة رفضها استخدام مواطنيها كورقة ضغط سياسي. قرار فرنسا بخفض التأشيرات لم يكن مبررًا وأدى إلى تصعيد التوتر بين البلدين، ما دفع الجزائر إلى إعادة تقييم سياساتها تجاه التعاون في هذا المجال.
تطرق المقال أيضًا إلى اعتقال الكاتب الجزائري بوعلام صنصال في 21 نوفمبر، بتهم تتعلق بـ”المساس بأمن الدولة”. حسب نفس الجريدة، هذا التطور أثار صدمة في باريس، خاصة مع متابعة كمال داود بسبب تهمة “انتهاك الحياة الشخصية وإفشاء السر الطبي” من خلال روايته “حوريات”. اعتقال صنصال، الذي حصل في ماي الماضي على الجنسية الفرنسية بدعم مباشر من الرئيس ماكرون، تسبب في تصعيد دبلوماسي.
واعتبرت باريس مؤشرًا على “تدهور” في حالة حقوق الإنسان وحرية التعبير في الجزائر. ومع ذلك، هذا التناول يغفل السياق القانوني الذي أُحيطت به القضية، حيث وجهت لصنصال تهمة “المساس بأمن الدولة”، وهي تهمة منسجمة مع القانون الجزائري، ولا تتعلق أبداً بحرية التعبير.
في الواقع، من حق أي دولة أن تسن قوانين تهدف إلى حماية أمنها القومي من التهديدات. والجزائر ليست استثناءً في هذا السياق. حتى فرنسا، التي توجه انتقاداتها للجزائر، لديها قوانين صارمة لمواجهة أي تهديد يمس باستقرارها الداخلي، حيث عرفت ملاحقات قانونية لمجرد الاشتباه بوجود خطر.
إذاً، لماذا يتم استهداف الجزائر وانتقادها حين تطبق قوانينها الوطنية في إطار سيادتها؟ القضية تتجاوز مسألة حرية التعبير لتكون جزءًا من نقاش أوسع حول ازدواجية المعايير في التعامل مع الدول، وخاصة الجزائر. كما يغفل المقال حقيقة أن فرنسا نفسها تواجه اتهامات تدهور في حالة حقوق الإنسان وحرية التعبير، حيث شهدت البلاد احتجاجات دولية بشأن تقييد الإعلام والتعامل العنيف مع الصحفيين والمتظاهرين.
تصاعد التوتر بين الجزائر وفرنسا بعد اعتراف الأخيرة بـ”سيادة” المغرب على الصحراء الغربية أثار استياء الجزائر، التي ترى في هذا الموقف انحيازًا صارخًا يتجاهل مبدأ تقرير المصير الذي تدعمه الشرعية الدولية عبر مجلس الأمن، الذي تعتبر فرنسا عضوًا فاعلاً ودائمًا فيه. هذا التغير في الموقف عمق أزمة الثقة بين البلدين، خاصة أن الجزائر كانت دائمًا مدافعة عن القضايا العادلة، مثل قضية الصحراء وفلسطين وتيمور الشرقية سابقًا.
تناول المقال محاولات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لخفض حدة التوتر بين البلدين، من خلال خطوات رمزية مثل إعادة رفات مقاومين جزائريين وإطلاق مبادرات تتعلق بملفات الذاكرة التاريخية. ومع ذلك، أُجلت زيارات رسمية عديدة، حيث يعتبر الكثير من المراقبين الجزائريين أن فرنسا لم تظهر جدية كافية في معالجة قضايا الذاكرة بالشكل المطلوب. تصريحات الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون حول التجارب النووية الفرنسية ووصفه الاستعمار بـ”الإبادة” أثارت ردود فعل فرنسية حادة، ووصفتها بعض الأطراف هناك بأنها تصعيد غير مبرر. إلا أن هذه التصريحات في حقيقتها ليست سوى تذكير بحقائق تاريخية مؤلمة لا تزال تشكل عقبة رئيسية أمام تحسن العلاقات الثنائية.
تطالب الجزائر باعتراف كامل من فرنسا بجرائمها الاستعمارية، بما في ذلك تقديم تعويضات عن الأضرار الناتجة عن التجارب النووية والبيولوجية في الصحراء الجزائرية. وبينما مثلت إعادة جماجم المقاومين خطوة إيجابية، إلا أنها لا تكفي لمعالجة الجروح العميقة التي خلفها الاستعمار، مما يجعل الحاجة إلى إجراءات أكثر عمقًا ووضوحًا أمرًا لا مفر منه لتحقيق مصالحة حقيقية.
من بين الأدوات التي تحاول فرنسا توظيفها ضد الجزائر، ملف الهجرة غير الشرعية التي تتهم باريس الجزائر بعدم التعاون في استعادة المهاجرين غير الشرعيين. لكن الجزائر أكدت مرارًا أنها لن تسمح باستخدام هذا الملف كوسيلة للابتزاز السياسي، وكذبت تصريحات وزير الداخلية حول عدد الجزائريين غير الشرعيين.
على الجانب الآخر، تدافع الجزائر عن هويتها الثقافية والدينية في مواجهة محاولات الهيمنة الثقافية الفرنسية. وتعتبر أن الحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية للمجتمع الجزائري جزء لا يتجزأ من سيادتها الوطنية، وأن أي محاولة لفرض “قيم” تتعارض مع ثقافتها مرفوضة تمامًا.
تناول المقال أيضًا انتقادات فرنسية لاستقبال الجزائر شخصيات مؤيدة للقضية الفلسطينية في المسجد الكبير بباريس. لكن الجزائر تعتبر القضية الفلسطينية جزءًا أساسيًا من مبادئها الوطنية، وهي مسألة تتجاوز الخلافات السياسية مع فرنسا. في المقابل، تعكس المواقف الفرنسية تجاه هذا الملف ازدواجية واضحة، إذ تتغاضى عن الجرائم “الإسرائيلية” بينما تنتقد دعم الجزائر للفلسطينيين.
المقال في مجمله يعكس قراءة فرنسية أحادية الجانب للأزمات مع الجزائر، لكنه يبرز الحاجة الملحة لإعادة صياغة العلاقات بين البلدين على أسس جديدة. تحقيق شراكة متوازنة يتطلب تجاوز السجالات الإعلامية والبحث عن حلول حقيقية تقوم على الاحترام المتبادل، بعيدًا عن السياسات الأحادية والتدخل في الشؤون الداخلية. معالجة الملفات التاريخية والدبلوماسية الحساسة تبقى خطوة أساسية في هذا الاتجاه.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!
تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…