‫الرئيسية‬ الأولى نحن وحرب إسرائيل الوجودية
الأولى - الدولي - مقالات - 18 يونيو، 2025

نحن وحرب إسرائيل الوجودية

نحن وحرب إسرائيل الوجودية
دخلت المنطقة فصلًا آخر من فصول الصراع بين أهل الأرض، ومن قَدِم إليها مغتصبًا مستوطنًا، مراهنًا على فلسفة توماس هوبس في ترسيخ مفهوم “حق القوة”، والمسنود بدعم غربي متواصل منذ العام 1947. وقد تجسّدت هذه الرؤية ضمن ما يمكن تسميته بـ”نظرية التحالف الثلاثي”، الذهنية الاستعمارية، الإنجيليون، وتفوق العرق الأبيض؛ وهي أيديولوجية تعود جذورها إلى القرن الثامن عشر والتاسع عشر، لكنها وجدت ترجمتها العملية الأوضح مع بروز المحافظين الجدد منذ سبعينيات القرن الماضي، وذلك من خلال فلسفة الأب الروحي لهذا التيار، إرفينغ كريستول، الذي منح السياسة الخارجية الأمريكية طابعًا محوريًا يتمحور حول أولوية أمن إسرائيل، حتى لو كان ذلك على حساب أمن الولايات المتحدة نفسها.

في مقابل هذا المنظور القائم على القوة والغلبة، تقف فلسفة “قوة الحق” كجوهر لعقيدة أصحاب الأرض، والمبنية على مفهوم العلاقة الوجودية بين الإنسان وأرضه، وعلى قدسية هذا الرابط في المخيال الجماعي للشعوب. هذه الفلسفة تستند إلى مفاهيم الهوية والانتماء، وتستلهم دوافعها من دوامة العنف الناتجة عن صراعات أيديولوجية وعرقية شهدها العالم خلال القرون الماضية، وانتهت إلى حربين عالميتين.

ولعل هذه التجربة القاسية دفعت بمجموعة من الفلاسفة الغربيين إلى طرح مقاربات إنسانية بديلة، مثل يورغن هابرماس ونظريته حول “الكوكبة ما بعد القومية”، وإيمانويل كانط ونظرية “المواطنة العالمية”، وكذلك فرانز فانون، الذي وقف إلى جانب الثورة الجزائرية، وعدد من المفكرين الآخرين الذين دعوا إلى بناء جسور التفاهم بين الشعوب بدل الانزلاق نحو العنف المتكرر، دون الحاجة إلى الغوص العميق في خلفيات المشروع الأيديولوجي والجيوستراتيجي الذي لا يزال يُحكم قبضته على المنطقة.

في هذا السياق، لا بد من التوقف عند لحظة فارقة، بداية عهدة دونالد ترامب الأولى، والتي دشّنت مرحلة جديدة في المشروع الإسرائيلي الأكبر، عبر ما سُمي بـ”اتفاقات أبراهام”، وهي الجزء الأول من الفصل الأخير في مخطط الهيمنة الإسرائيلية الشاملة على المنطقة. وقد جاء ترامب لترجمة هذا المشروع، الذي يهدف إلى تمكين إسرائيل من لعب دور القوة الوحيدة المهيمنة في الشرق الأوسط، عبر تصفية كل الحضارات والمشاريع المناهضة لفكرة “الشرق الأوسط الجديد”.

وقد تم التمهيد لهذا المشروع من خلال ما صرّحت به كوندوليزا رايس بعد حربي أفغانستان والعراق، ثم عاد المشروع نفسه في نسخة محدثة بلباس ليبرالي عبر ما سُمّي بـ”الربيع العربي”. ومع هذا التقدم، دخل المشروع مرحلة جديدة، حيث سلّمت الدول المطبعة، بشكل غير معلن، مفاتيح العصمة السياسية والاقتصادية لتل أبيب، على شكل حكم ذاتي غير معلن، مركزه إسرائيل. وتلعب الأنظمة المطبعة دور الأذرع التنفيذية للمركز الإسرائيلي، وهو ما يُفسر السلوك المشبوه لدولة الإمارات في المنطقة، وكيفية لعبها لدور قذر في زعزعة استقرار الدول العربية ودعم الاقتتال الداخلي فيما بينها.

وفي هذا الإطار، يتسارع الدعم الغربي والعربي المتحالف مع إسرائيل لمشروع “الحكم الذاتي” المفروض على الصحراويين، تحت غطاء نظام المخزن، الذي يُستعمل كأداة وظيفية في خدمة المشروع الصهيوني الأوسع. وبهذا المعنى، فإن ما يحدث اليوم في شمال إفريقيا، من دعم فرنسي وصهيوني لمقترح الحكم الذاتي، ليس إلا امتدادًا عضويًا لمخطط إسرائيلي يريد فرض واقع جديد في المنطقة، من خلال وكلاء محلّيين.

هكذا يتشكّل مشهد جديد في الشرق الأوسط، بغضّ النظر عن نتائج الحرب المستمرة، التي تشبه حركة حلزونية ضد إيران والمنطقة ككل. ومع أن الحرب تتخذ طابعًا وجوديًا بالنسبة لإسرائيل، إلا أن الشعوب، باعتبارها المركز الحقيقي للصراع، لا تزال ترفض الاحتلال والهيمنة الصهيونية على مقدّرات الأمة، من المحيط إلى الخليج. فبالنسبة لها، المعركة هي معركة الدين والتاريخ، الأرض والعرض، والهوية. أما بالنسبة لإسرائيل، فهي معركة وجود، تختصرها في سعيها المحموم لتثبيت مكانتها كقوة مركزية في “الشرق الأوسط الجديد”، حيث تكون هي المركز، والبقية تبع.

وأمام هذا التحول الدراماتيكي الذي تعرفه المنطقة، وتداخل المسارات الجيوسياسية، برزت القضية الصحراوية مجددًا لتجد نفسها في قلب هذا المشهد المرتبك. فهي ليست مجرد مسألة محلية، بل قضية تصفية استعمار قائمة على أساس قانوني واضح، وزخم جيوسياسي واقتصادي يتعاظم، مع تواجد جبهة عسكرية نشطة على الأرض، أثبتت حضورها القوي في الآونة الأخيرة.

وهنا يُطرح التساؤل الجوهري، هل يُعتبر مقترح “الحكم الذاتي”، الذي تحاول فرنسا فرضه اليوم على الشعب الصحراوي بأدوات مخزنية، سوى مظهر من مظاهر المشروع الإسرائيلي الأوسع؟ سؤال يتجاوز مجرد الشكل السياسي، ليضع القضية في سياقها الحقيقي، ضمن معركة كبرى على مستوى الإقليم، تُرسم فيها خرائط جديدة، بدماء الشعوب ومقدّراتها. والحديث قياس.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

نحن وحرب إسرائيل الوجودية

دخلت المنطقة فصلًا جديدًا من فصول الصراع بين أهل الأرض ومن وفد إليها مغتصبًا مستوطنًا، مست…