‫الرئيسية‬ الأولى نموذج معلومات البناء (BIM): رافعة التحول العميق في الجزائر بين الطموح والضرورة
الأولى - مقالات - 31 مايو، 2025

نموذج معلومات البناء (BIM): رافعة التحول العميق في الجزائر بين الطموح والضرورة

نموذج معلومات البناء (BIM): رافعة التحول العميق في الجزائر بين الطموح والضرورة

تشهد الجزائر  طفرة في الطموحات العمرانية والطاقوية، تُوّجت بإطلاق مشاريع استراتيجية كبرى في مجالات السكن، الطاقة، البنية التحتية، وتطوير المدن. غير أن هذه الطموحات اصطدمت بتحديات حقيقية تتعلق بتعقيد الإنجاز، تعدد المتدخلين، طول الآجال، ارتفاع التكاليف، وتكرار الأخطاء التقنية. وفي قلب هذه الإشكالات، برزت الحاجة إلى أدوات حديثة ومنهجيات متقدمة في إدارة المشاريع، وعلى رأسها نموذج معلومات البناء أو ما يعرف اختصارًا بـBIM (Building Information Modeling)، وهو أكثر من مجرد برنامج، بل ثورة في طريقة تفكير وإنجاز المشاريع.

سفيان بوقرة | أستاذ جامعي وخبير في نمذجة البناء الرقمية BIM
سفيان بوقرة | أستاذ جامعي وخبير في نمذجة البناء الرقمية BIM

الـBIM هو نهج رقمي متكامل يُمكن من تصور وتنسيق ومتابعة كل مراحل المشروع — من الفكرة الأولى إلى ما بعد التسليم — عبر نموذج ثلاثي الأبعاد غني بالمعلومات، يمكن لجميع المتدخلين التفاعل معه. يتم عبره توحيد كل المعطيات التقنية، المالية، الزمنية، البيئية وحتى التشغيلية في ملف رقمي واحد يرافق المشروع طوال دورة حياته.

في الجزائر، ورغم البدايات المحتشمة، بدأت بعض المؤسسات تدرك الأهمية الاستراتيجية لهذه الأداة. مشاريع ضخمة كمصافي النفط بوهران وسكيكدة، أو محطات الغاز الطبيعي المُسال (GNL) بأرزيو، أبانت عن الحاجة القصوى لتنسيق عالي المستوى بين المهندسين، التقنيين، المتعهدين والمراقبين. وهنا، يفرض الـBIM نفسه كأداة لا غنى عنها.

خذ مثالًا على ذلك مشروع توسعة أرزيو GNL 3Z. لو تم اعتماد الـBIM منذ بدايته، لتمت محاكاة كل الشبكات (أنابيب، كهرباء، تهوية)، ولتم اكتشاف التعارضات قبل مرحلة الورشة، مما كان سيوفر مئات الملايين من الدينارات، ويقلص مدة الأشغال، ويجنب التعديلات المكلفة في آخر اللحظات. كما أن تقديم النموذج الرقمي للجهات المنظمة أو المانحين الدوليين كان سيسرّع من عمليات المصادقة.

أما في المشاريع البحرية، فإن الأمر أكثر تعقيدًا. المنصات النفطية في عرض البحر، والتي تتطلب تقنيات معقدة ولوجستيك بحري عالي الدقة، تستفيد من الـBIM عبر محاكاة الظروف البحرية، تيارات الماء، قيود الحركة، وحتى تأمين العاملين. في ظل توجه الجزائر نحو الاستكشاف في المياه العميقة، يصبح اعتماد منهجية الـBIM ضرورة لا خيارًا.

لكن التحول لا يجب أن يبقى حكرًا على المشاريع الطاقوية. المدن الجزائرية في حاجة ماسة لإعادة تنظيم. والعاصمة الجزائر، التي طُرح لها مشروع إعادة تأهيل شامل في خطط تنموية متعددة الألوان (الخطة البيضاء للسكن، الزرقاء للمرافق، والصفراء للبنية التحتية)، تمثل المختبر المثالي لتطبيق الـBIM على نطاق واسع. يمكن هنا للنموذج الرقمي أن يربط بين القطاعات، يحاكي التأثيرات الطاقوية، يقدر الكلفة الزمنية والمادية، ويوفر أداة تواصل مرئية مع المواطن نفسه.

ومن زاوية أخرى، الـBIM لا يخص فقط المهندسين. بل يُعيد تشكيل علاقة المواطن بالمشروع العمومي. منصات رقمية مثل BIMCity أو UrbanTwin تسمح بعرض المشاريع المستقبلية على العامة، تلقي آرائهم، إشراكهم، وبناء نوع من الثقة التفاعلية بين الدولة وسكان المدن. المواطن يرى عمارة حيه قبل أن تُبنى، ويعرف أين ستمر الطرقات أو الحدائق أو المدارس، ويشارك في النقاش العمومي انطلاقًا من معلومات موثوقة.

رغم ما يحمله الـBIM من وعود واعدة، تبقى طريق التحول الرقمي في قطاع البناء بالجزائر بعيدة كل البعد عن أن تكون ممهدة أو سالكة بسلاسة. فالمعضلات التي تعترض هذا التحديث البنيوي لا تتعلق بالتقنية في حد ذاتها، بل بمنظومة متشابكة من العوائق الهيكلية والمؤسساتية والبشرية.

أولى هذه العقبات وأكثرها إلحاحًا هي ضعف التكوين. إذ لا يزال معظم المهندسين والتقنيين الجزائريين يفتقرون إلى التأهيل المتخصص في أدوات وتقنيات الـBIM، بل إن هذا المفهوم لا يُدرَّس بشكل منهجي في أغلب كليات الهندسة والمعمار. الأمر الذي يجعل الحديث عن تبني هذا النظام في بيئة غير مُعدّة لذلك يبدو في كثير من الأحيان ترفًا أكثر منه ضرورة ملحّة. لا يمكن تحقيق تحول رقمي حقيقي دون رأسمال بشري مكوّن وقادر على استيعاب ومواكبة هذا التحول.

العقبة الثانية، وتكاد تكون أخطر من سابقتها، تكمن في غياب معايير وطنية موحدة تُلزم الفاعلين باعتماد الـBIM كنموذج مرجعي للمشاريع. لا وجود في الجزائر حتى الآن لإطار تنظيمي يفرض، بشكل واضح وصارم، توظيف النموذج الرقمي في تنفيذ المشاريع العمومية الكبرى. النتيجة؟ كل جهة تعمل وفق تصوراتها، وكل مشروع يُدار بأسلوب مختلف، مما يفرغ فكرة الرقمنة من مضمونها، ويحولها إلى مجرد شعار للاستهلاك.

أما العائق الثالث فيتعلق بضعف الحوافز المقدّمة للمقاولات، خاصة الصغرى والمتوسطة، لاعتماد الرقمنة. فبين ضغط التكاليف، والخوف من التغيير، ونقص الكفاءات، تفضّل كثير من الشركات البقاء في دائرة النماذج الورقية والبرامج القديمة، دون أي حافز تشجيعي أو دعم مالي أو تقني يمكن أن يدفعها نحو المستقبل. والنتيجة أن الهوة تتسع بين الخطاب الرسمي والتطبيق الميداني.

ولا يكتمل هذا المشهد إلا بإضافة معضلة رابعة، تتعلق بانعدام التنسيق الفعلي بين مختلف الهيئات الحكومية. فكل وزارة أو هيئة تمضي في مسارها الرقمي بمعزل عن الأخرى، دون وجود رؤية شاملة أو قاعدة بيانات وطنية مشتركة. هذا التشتت لا يُهدد فقط فعالية المشاريع، بل يُجهض مسبقًا أي إمكانية لبلوغ تحوّل رقمي حقيقي ومتكامل.

إن الاعتراف بهذه العراقيل لا يعني التراجع عن الحلم الرقمي، بل هو الخطوة الأولى لتجاوزه. والجزائر، التي تخوض معركة التحديث في بيئات معقدة ومضطربة، تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى شجاعة الاعتراف، وجرأة الإصلاح، وتوحيد الرؤية حول ما ينبغي أن يكون، لا ما هو قائم فقط.

لكن التجارب الدولية تُظهر أن تجاوز هذه العوائق ممكن. فرنسا مثلًا، بدأت بمشاريع تجريبية صغيرة، ثم أدخلت الـBIM في صلب منظومتها القانونية. المملكة المتحدة جعلته إلزاميًا في الصفقات العمومية منذ عام 2016. تركيا جعلت منه عنصرًا استراتيجيًا في خطتها للتحول الحضري. فماذا تنتظر الجزائر؟

يتطلّب إدماج الـBIM في المشهد الجزائري تحوّلاً جذريًا يتجاوز مجرّد استخدام البرامج الرقمية نحو إرساء ثقافة منهجية متكاملة تُعنى بالتخطيط، والتنفيذ، والتسيير، والاستدامة. ولا يمكن لهذا التحوّل أن يتحقق إلا عبر خطوات ملموسة تبدأ أولًا بإرادة سياسية واضحة تتجسّد في وضع قانون وطني صريح ينظّم اعتماد الـBIM، ويحدّد معاييره وضوابط استخدامه في مختلف مراحل المشروع، خاصة في إطار الصفقات العمومية. قانون لا يكتفي بالتنظيم بل يمنح أيضًا طابعًا إلزاميًا يُنهي التردد والتباين في التطبيق بين الإدارات والمؤسسات.

لكنّ القانون وحده لا يكفي ما لم يتم ربطه بالتكوين الجاد. إدراج الـBIM في مناهج التدريس بكليات الهندسة المعمارية والمدنية، وفي برامج التكوين المهني، يُعدّ ضرورة استراتيجية وليس خيارًا تقنيًا. ذلك أن المهندس أو التقني الذي لا يفهم منطق النمذجة الرقمية لن يستطيع التعامل مع أدواتها مهما بلغت بساطتها. يجب أن يتخرج الطلبة وهم متشبعون بمنهجية التفكير التشاركي، والتخطيط القائم على البيانات، ومفهوم «دورة حياة المشروع» الذي يُعد من صميم فلسفة الـBIM.

ومن أجل إحداث تأثير فعلي في بيئة العمل، لا بد من إنشاء مراكز امتياز داخل كبرى الشركات العمومية مثل سوناطراك، كوسيدار، سونلغاز وغيرها. هذه الشركات، بحكم وزنها المالي والبشري، يمكن أن تكون منصات رائدة لتجريب وتعميم هذه المنهجية، عبر تكوين فرق داخلية، واقتناء البرمجيات المناسبة، وتحديث مسارات العمل القائمة.

ولأن أي إصلاح يحتاج إلى تجارب ملموسة، فإن إطلاق مشاريع نموذجية في ولايات مختارة يمكن أن يشكل حجر الزاوية في هذه الديناميكية. مشاريع يكون الهدف منها ليس فقط الإنجاز، بل أيضًا جمع الملاحظات الميدانية، وقياس الفعالية، والتعلّم من الأخطاء، وإنتاج تقارير تقييم حقيقية تُفتح للنقاش والتعديل.

أما على المدى البعيد، فإن الحلم الكبير يتمثل في بناء توأم رقمي لكل ولاية أو بلدية. منصّة مركزية تحتوي على كل البيانات المتعلقة بالعقار، بالشبكات، بالبنية التحتية، بالمشاريع الجارية والمستقبلية، لتصبح الإدارة المحلية أكثر نجاعة، وأكثر شفافية، وأكثر قدرة على اتخاذ القرار بناء على المعطيات الواقعية لا التقديرات الجزافية.

إن هذه الرؤية لا تُبنى في يوم، لكنها تستحق أن تكون بوصلتنا إذا أردنا أن نلحق بركب الأمم التي جعلت من الرقمنة ركيزة لتخطيط مدنها، وتطوير صناعتها، وتحسين حياة مواطنيها. الـBIM ليس مجرد تقنية، بل ثقافة تنظيمية متكاملة، ومتى آمنت الجزائر بجدواها، صار المستقبل في متناول يدها.

نقولها بوضوح، الـBIM ليس رفاهًا تقنيًا ولا نزوة رقمية، بل ضرورة وطنية. إنه أداة التحول الذكي، الرشيد، المتكامل، الذي يضع الجزائر على سكة الحداثة المستدامة. وهو لا يُنجز ببرمجيات فقط، بل بإرادة سياسية، وشراكة مؤسساتية، ووعي مجتمعي حقيقي.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

قطاع المناجم: ثروة نائمة… آن أوان استغلالها

صادق البرلمان الجزائري على القانون الجديد المتعلق بالمناجم، والذي يُعدّ من أبرز النصوص الت…