هكذا انتصرت الجزائر في “معركة النص” داخل مجلس الأمن
لم يكن تصويت الجزائر على قرار مجلس الأمن المتعلق بمرحلة ما بعد الحرب في غزة حدثًا يمكن التعامل معه بمنطق الانفعال أو المزايدات السريعة، لأنه لم يكن قرارًا شكليًا أو تقنيًا، بل كان خطوة سيادية مدروسة في قلب لحظة دولية معقدة، جاءت فيها الضغوط متشابكة، والاصطفافات متداخلة، والمصالح متصارعة بين قوى كبرى وإقليمية، فيما كانت غزة تنزف وقطاعها مهدّدًا بمصير خطير إذا ما تُرك المجال لواشنطن والدوائر الغربية والكيان الصهيوني ليكتبوا وحدهم ملامح المستقبل.
الجزائر لم تتصرف بردّة فعل، بل بوعي دولة تعرف مكانتها وحدود تأثيرها وكيفية استعمال موقعها داخل مجلس الأمن لصالح القضية الفلسطينية، لا من أجل التظاهر اللفظي، بل من أجل التأثير الحقيقي في النصوص التي تصنع السياسة على الأرض. لقد كان مشروع القرار الأمريكي الأولي أكثر خطورة مما وصل إلى التصويت النهائي، وكانت الجزائر الطرف العربي الأكثر حضورًا في تعديل نصّه، بعد جولات تفاوضية مع المجموعة العربية، وهو ما انتهى بإدراج بنود إنسانية وسياسية لم تكن لتظهر لولا تدخل الجزائر، مثل ضمان إدخال المساعدات الإنسانية دون قيد، ورفض التهجير القسري، والتأكيد على أن المرحلة الانتقالية لا يمكن أن تكون بديلاً عن مسار يقود إلى دولة فلسطينية ذات سيادة. هذه مكاسب واقعية، وليست خطابات.
ولم يكن خافيًا على أحد أن القرار كان سيُعتمد بثبات بغض النظر عن موقف الجزائر، لأن ثلاثة عشر صوتًا كانت جاهزة لدعمه، فيما امتنعت روسيا والصين دون اعتراض، أي أن “الرفض” من الجزائر لم يكن ليُسقط القرار بل كان سيفتح الباب لتمرير نصّ خالٍ تمامًا من أي حماية للفلسطينيين. وهنا تظهر براعة الدبلوماسية الجزائرية، بدل أن تكتفي بالصراخ خارج القاعة، فضّلت الدخول إلى عمق النص، والضغط على الولايات المتحدة وشركائها، وإدخال مفاهيم عربية وجزائرية صرفة، تمنع تحويل غزة إلى مساحة فوضى أو وصاية دائمة، أو جعل “قوة الاستقرار الدولية” غطاءً لتبييض اليد الصهيونية ولتبرير استمرار السيطرة الاستعمارية. إنّ الجزائر، بخيارها الواقعي، وضعت نفسها في موقع الفاعل لا المنفعل، وفي موقع من يؤثر في القرار بدل من ينتظر صدوره ليعارضه لفظيًا فقط.
أما الجدل الذي أثير حول موضوع نزع السلاح، والذي حاول البعض ربطه حصريًا بالقرار الأممي، فهو يحتاج إلى قدر كبير من التوضيح. لأن الوقائع تثبت أن ملف “مرحلة ما بعد الحرب” بدأ تداوله قبل القرار الأممي بأشهر، خصوصًا خلال قمة شرم الشيخ التي حضرها شركاء إقليميون ودوليون طرحوا خلالها تصورًا كاملاً للإدارة المدنية والأمنية للقطاع. الإعلان الصادر عن القمة تضمن بنودًا تتحدّث عن ترتيبات أمنية، وعن ضرورة إعادة بناء المؤسسات الفلسطينية، وعن مناقشة مستقبل السلاح كجزء من “الحوكمة الأمنية” للمرحلة الانتقالية، لكن الفصائل الفلسطينية — وعلى رأسها حماس — أعلنت لاحقًا أنها لم تكن طرفًا موقعًا على الإعلان وأنها ترفض أي مسار يفرض عليها تسليم السلاح تحت وصاية دولية. معنى ذلك أن الملف كان مطروحًا في الساحة الدولية أصلاً، وأن الجزائر ليست طرفًا في فتحه، ولا مسؤولة عن صياغته، وأن دورها في مجلس الأمن لم يكن سوى محاولة لتقييد تلك التوجهات ومنع توظيف “نزع السلاح” كأداة لتكريس إدارة أمنية مفتوحة تخدم الاحتلال ولا تخدم الفلسطينيين. كما أن النص النهائي للقرار لم يأت بصيغة مباشرة تفرض نزع السلاح، بل ترك الباب مفتوحًا لترتيبات “تخضع لموافقة الأطراف الفلسطينية” ضمن سياق سياسي لا يمكن أن يتم دون إجماع فلسطيني، وهنا بالذات يظهر أثر الموقف الجزائري الذي شدد في مداخلاته الرسمية على أن أي ترتيبات أمنية لا بد أن تكون ضمن إطار سيادي فلسطيني خالص، وليس تحت وصاية خارجية.
وفي السياق ذاته، لا يمكن إغفال الأطراف التي حاولت استغلال اللحظة لفرض تصورات خطيرة على مستقبل غزة، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني المحتل الذي سعى علنًا إلى فرض سيناريو “الفوضى المتحكم فيها”، وهو سيناريو يتيح له البقاء حاضرًا في قلب المشهد الأمني تحت غطاء دولي، ويمنحه قدرة على منع إعادة تشكيل قيادة فلسطينية موحدة. كما أن دوائر معينة داخل الإدارة الأميركية كانت تدفع نحو صيغة فضفاضة للمرحلة الانتقالية تسمح لها بتجديد الهيمنة تحت غطاء أممي. أما بعض الأنظمة العربية التي انخرطت في مسار التطبيع، فكانت تبحث عن إخراج سياسي يناسب حساباتها، ولو أدى ذلك إلى قبول فصل غزة عن عمقها الفلسطيني تحت شعار “الإعمار أولاً”. وسط هذا المشهد المعقّد، كانت الجزائر القوة العربية الوحيدة التي خاضت معركة النص داخل مجلس الأمن، وكبحت اندفاعة هذه الأطراف، وفرضت صياغة أكثر توازنًا، وأوقفت محاولة تحويل غزة إلى فضاء منزوع السيادة.
وإذا كان البعض من الأحزاب الجزائرية التي هاجمت موقف الدولة اعتمدت قراءة ناقصة لا تعكس حقيقة ما جرى، فإن هذه الأحزاب مدعوّة اليوم إلى مراجعة مرجعيتها السياسية، لأنه من غير المقبول أن تهاجم موقفًا دبلوماسيًا سياديًا تم اتخاذه وفق رؤية الدولة الجزائرية الثابتة منذ الاستقلال. إن مرجعية القرار الجزائري ليست حسابات سياسية حزبية، ولا مزايدات إعلامية، ولا اصطفافات ظرفية، بل هي مرجعية نوفمبر المجيد التي جعلت من الانتصار لقضايا التحرّر التزامًا ثابتًا في السياسة الخارجية الجزائرية. الدولة التي وُلدت من رحم ثورة تحرير عالمية ضد الاستعمار تعرف جيدًا معنى الظلم والاحتلال والوَصاية، ولذلك لم ولن تقبل بأن تتحول غزة إلى مساحة خاضعة لأجندات لا تخدم الفلسطينيين. وعلى الأحزاب التي انتقدت القرار — بدافع سوء القراءة أو ضغط اللحظة — أن تدرك أن الدفاع عن فلسطين لا يتم بالشعارات ولا بالمزايدات، بل بحضور قوي في قلب صناعة القرار الدولي، وهو ما قامت به الجزائر على أعلى مستوى.
ويمكن القول إن الجزائر لم تتراجع يومًا عن صفها الطبيعي إلى جانب الشعب الفلسطيني، لكنها اليوم تدافع عنه بأدوات العصر، أي بالدبلوماسية الفعّالة داخل المؤسسات الحاكمة للعالم، لا بخطابات احتجاجية لا تُغيّر شيئًا. إن تأثير الجزائر الحقيقي ظهر في لحظة كانت فيها القوى الكبرى تستعد لفرض أمر واقع خطير على غزة، فجاء الموقف الجزائري ليكبح هذا المسار وليحفظ للفلسطينيين عناصر أساسية من حقوقهم. ومن يريد تقييم القرار الجزائري فليسأل نفسه، من الذي عدّل النص؟ من الذي منع أسوأ السيناريوهات؟ من الذي حافظ على موقع فلسطين داخل النقاش الدولي؟ الإجابة واضحة وبسيطة الجزائر وحدها كانت في قلب المواجهة، بينما اكتفى الآخرون بالنقد اللفظي. وهذا هو الفارق بين دولة تصنع السياسة وأحزاب تكتفي بالتعليق عليها.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
محاكمة “لافارج”: شهادات تكشف بالتفصيل شبكة القرارات التي قادت إلى تمويل “داعش” في سوريا
تواصلت في باريس جلسات المحاكمة التاريخية التي يُحاكم فيها عملاق الإسمنت الفرنسي لافارج بته…







