‫الرئيسية‬ الأولى هكذا يعيد كمال داود إنتاج الاستعمار… بالخطاب!
الأولى - الوطني - مقالات - 24 يوليو، 2025

هكذا يعيد كمال داود إنتاج الاستعمار… بالخطاب!

كمال داود... حين يتحول الاستعمار من جغرافيا إلى هوية ناطقة
في زمن ما بعد الاستعمار، لم تعد السيطرة تُمارس بالدبابات، بل بالأفكار. صار الهيْمن يُمارس لا عبر الحدود السياسية، بل عبر النخبة، وعبر اللغة، وعبر إعادة إنتاج سرديات المركز القديم بوسائط جديدة. هذا الشكل الجديد من السيطرة لا يحتاج إلى حاكم عسكري ولا إلى مقيم عام، بل إلى صوت محلي، ناطق بلغة الآخر، يدّعي التنوير، بينما يُعيد تأكيد العلاقة غير المتكافئة بين “الشمال المعلِّم” و”الجنوب الذي يحتاج إلى التقويم”. وما أكثر الأمثلة على ذلك، لكن من أكثرها فجاجة ووضوحًا في السياق الجزائري، يبرز اسم كمال داود، الكاتب الذي بنى مجده في باريس، على قاعدة ثابتة، الجزائر لا تفهم، ولا تنجح، ولا تُحكم إلا إذا خضعت لمقاييس فرنسا.

داود ليس مجرّد ناقد سياسي، بل يُقدَّم دائمًا في الإعلام الفرنسي كممثل مثقف لـ”العقل الجزائري” الذي يجلد ذاته. لكنه حين يفعل ذلك، لا يتحدث من الداخل، ولا بلغة وطنه، بل بلغة المستعمِر السابق، في منابر مثل Le Point، حيث لا يُطلب منه التحليل، بل المصادقة الثقافية على مقولات جاهزة، أن النظام الجزائري عدمي، أن الدولة مرتبكة، أن الشعب غائب، وأن الخلاص لا يأتي إلا من الخارج. إن كمال داود يُمثّل هنا أكثر من شخص، إنه موقع، دور المثقف المحلي الذي يُعيد إنتاج السردية الاستعمارية من داخل المنظومة الاستعمارية ذاتها، لا في وجهها الخشن، بل في وجهها الليبرالي “الإنساني” المغشوش.

إن أي قراءة لمقالاته، لا سيما منها حول تقارب الجزائر مع إيطاليا في مجلة Le Point، تظهر بوضوح أن الخلاف ليس سياسيًا، بل وجودي. إن داود لا يُزعجه التفاوض مع ميلوني أو توقيع اتفاقيات اقتصادية، بل يُزعجه أن الجزائر فعلت ذلك دون وساطة باريس. هو لا يثق في خيارات الجزائر، ولا في قدرتها على بناء استراتيجية سيادية خارج المدار الفرنسي. لذلك، يُسارع إلى وسم أي خطوة خارج “النص الفرنسي” بأنها عبث، أو انتهاز، أو عودة إلى الوراء. وهذا الموقف، في جوهره، ليس نقاشًا سياسيًا، بل احتقار ضمني لفكرة السيادة حين تكون منبعها محليًا.

المفارقة العميقة أن كمال داود، الذي يفاخر أحيانًا بأنه “فرنسي أكثر من الفرنسيين”، لا ينظر إلى بلاده كمشروع في طور التكوين، بل كخطأ في حاجة إلى تصحيح مستمر من باريس. هو لا يعارض النظام من موقع إصلاحي، بل من موقع أخلاقي فوقي، يعتبر أن الجزائر، منذ خروجها من “حضن فرنسا”، لم تعد تعرف إلى أين تتجه. لذلك، حين تفتح الجزائر على الصين أو روسيا أو إفريقيا، يتحدث داود عن فقدان البوصلة، لا لأنه يخشى ضياع الفرص، بل لأنه لا يتحمل رؤية بلاده وهي تتجاوز فرنسا، أو بالأحرى، تتجاهلها.

وهنا تحديدًا تتضح خطورة الخطاب الذي يمثّله داود، إنه يُؤطِّر مفهوم الحداثة ضمن مركزية فرنسية حصرية. فكل ما هو حداثي يجب أن يكون فرانكوفونيًا، وكل ما هو سيادي يُشتبه به، وكل ما هو انعتاق من فرنسا يُقرأ كخطر وجودي. وبهذا المعنى، فإن المثقف الذي يُفترض أن يكون حاملًا لقلق الوطن، يتحوّل إلى أداة رمزية لعرقلة تحرّره، لا من باب العداء الصريح، بل من بوابة “العقلانية الناطقة بالفرنسية”.

الجزائر التي تنهض اليوم، ببطء وتثاقل، لا تبحث عن تمجيد أعمى لسلطتها، بل عن حد أدنى من الاحترام لحقها في بناء نموذجها السيادي، حتى إن تعثّر، حتى إن تأخر، حتى إن اصطدم بالواقع. لكن الخطاب الذي يُمثّله داود لا يترك لها هذا الهامش، بل يُسارع إلى محاسبتها وفق مقاييس لا تطبّق على دول أخرى، بل تُفصَّل فقط على الجزائر. لماذا؟ لأن الجزائر وحدها، في خيال بعض النخب، يجب أن تظل تعتذر، وتظل تحت المجهر، وتظل تكتب تاريخها بلغة غيرها، وتنتظر إشارة قبول من معجم ليس معجمها.

كمال داود ليس المستهدف هنا كفرد، بل كنموذج وظيفي لمثقف يعيش في باريس، يكتب بلغة فرنسا، في صحافتها، ليُقوّم وطنه من الخارج. إنه رمز لفكرة تُعشش في وعي ما بعد الاستعمار، أن التحرر لا يكتمل إلا بموافقة السيد القديم، وأن السيادة لا تُمارَس إلا بإذن من المركز. هذه الفكرة، لا تُواجَه بالشتم، بل بالتفكيك، والتحليل، والوضوح. وهو ما تفعله الجزائر اليوم، حين تبني سياساتها بعيدًا عن أعين الاستعمار الرمزي، وتترك لهذا الخطاب أن يصرخ كما يشاء، لكنه لن يُعيد عقارب التاريخ إلى الوراء.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!

تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…