هل تُعيد “المصالح الاقتصادية” بناء الجسور المهدّمة بين الجزائر وفرنسا؟
بدأت من الجزائر العاصمة، وتحديدًا من أروقة “أيام الصناعة”، بعض الأصوات في باريس والجزائر تتحدث عن إمكانية فتح “نافذة براغماتية” قد تسمح بإعادة بناء ما هدمته السياسة خلال عام من التوتر الحاد بين الجزائر وفرنسا. فالخلافات التي تراكمت منذ صيف 2024، بلغت في أكثر من مناسبة حافة القطيعة الدبلوماسية، بينما بدا أن الاقتصاد – كعادته – يحاول التسلل بهدوء من بين الركام، باحثًا عن لغة المصالح حينما تفشل لغة السيادة والانفعال.
شهدت العلاقات بين الجزائر وفرنسا خلال الأشهر الأخيرة تصعيدًا غير مسبوق، بدأ بإعلان رئاسة الجمهورية الفرنسية، في يوليو 2024، دعمها لما يُسمى “خطة الحكم الذاتي المغربية” في الصحراء الغربية، وهو موقف اعتبرته الجزائر تحوّلاً خطيراً في ثوابت السياسة الفرنسية، يمسّ مباشرة ملفًا تصفه الجزائر بـ”قضية تصفية استعمار لم تنتهِ بعد”، كما تنص على ذلك قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
تلى ذلك سلسلة من الأزمات المتلاحقة، أبرزها اعتقال موظف دبلوماسي جزائري في قنصلية باريس، على خلفية اتهامه بخطف واحتجاز يوتيوبر جزائري، في حادثة أثارت رد فعل غاضب من الجزائر، وانتهت بـ تبادل طرد 30 دبلوماسيًا بين البلدين، في مشهد نادر في العلاقات الجزائرية-الفرنسية منذ 1962.
وفي خلفية هذه التوترات، جاء قرار ترحيل المؤثر الجزائري المعروف باسم “دوالمن” (بوعلام نعمان)، دون تنسيق مسبق مع السلطات الجزائرية، ليمثّل خرقًا واضحًا للأعراف الدبلوماسية، حسب مصادر رسمية جزائرية. وقد رفضت الجزائر استقبال المعني، وأعادته إلى فرنسا، مؤكدة أن الترحيل لم يحترم المسارات القانونية المعتمدة. هذا الرفض، الذي تكرّر في أكثر من ملف ترحيل، عزّز القناعة الجزائرية بأن فرنسا تسعى لممارسة “ضغوط أمنية” على حساب السيادة الوطنية.
رغم هذا المناخ المتوتر، شهدت الجزائر يومي 17 و18 يونيو 2025 مشاركة نحو 20 شركة فرنسية في فعالية “أيام الصناعة”، إلى جانب أكثر من 150 مؤسسة جزائرية، منها 40 شركة عمومية، في خطوة اعتُبرت من قبل مراقبين محاولة لتفعيل “الدبلوماسية الاقتصادية” وسط انسداد القنوات الرسمية.
وقال ميشال بيساك، رئيس غرفة التجارة والصناعة الجزائرية–الفرنسية، في تصريح لموقع Tout sur l’Algérie (TSA)، إن “هذا اللقاء هو الأول من نوعه في مجال الصناعة خلال سنة 2025″، مؤكدًا أن الهدف هو “جمع الشركات التي ترغب في الاستثمار في الجزائر أو نقل خبراتها إليها”. وبيّنت تصريحات بيساك أن الاهتمام الفرنسي بالجزائر لم يتوقف يومًا، رغم كل ما حدث. فقد أقرّ بتراجع الصادرات الفرنسية بنسبة 21% في الربع الأول من 2025، لكنه أشار إلى أن التراجع بدأ بالتباطؤ ليصل إلى 18% خلال الأشهر الأربعة الأولى، ما اعتبره “مؤشرًا على بداية استعادة التوازن”.
ترى عدة أوساط اقتصادية في باريس أن الجزائر، رغم ما يُقال سياسيًا، تظل سوقًا حيوية لا يمكن التفريط فيها. فبحسب بيانات الغرفة الفرنسية، فإن نحو 6000 شركة فرنسية لا تزال تنشط في الجزائر، رغم فترات التوتر السياسي المتكررة. كما أن القرب الجغرافي (ساعة و10 دقائق بالطائرة من مرسيليا) يُعزز من “جاذبية الجزائر” لدى المستثمر الفرنسي، وهو ما يُفسّر تمسّك رجال الأعمال الفرنسيين بالعلاقات، في مقابل تردد السياسيين.
زيارة رودولف سعادة، الرئيس التنفيذي لمجموعة “CMA CGM” للنقل البحري، إلى الجزائر في 2 يونيو 2025، كانت مؤشرًا إضافيًا على هذه الرغبة المتنامية من جانب رؤوس الأموال الفرنسية. الصحافة الاقتصادية الفرنسية وصفت هذه الزيارة بأنها “بداية جدّية لإنهاء التوتر من بوابة الشراكة الاقتصادية”، وهو ما يفسّر أيضًا الحضور الفرنسي الكثيف في أيام الصناعة، التي نُظمت برعاية مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري، برئاسة كمال مولى.
هل تكفي المصالح لإنقاذ العلاقة؟ الإجابة ليست سهلة. فحتى لو أبدى رجال الأعمال مرونة عالية، فإن الشارع السياسي الجزائري لا يزال ينظر بكثير من التوجّس نحو باريس. فالجزائر لا تريد شريكًا اقتصاديًا يتعامل معها بمنطق “الوصاية التاريخية” أو “المستعمرة السابقة”، بل تبحث عن علاقة متوازنة، تقوم على الندية، ونقل التكنولوجيا، وتكوين الكفاءات المحلية، وخلق القيمة الاقتصادية داخل التراب الوطني.
وهذا ما أكده بيساك نفسه، حين صرّح بأن “الاقتصاد يجب أن يُفصل عن السياسة”، وهو اعتراف ضمني بأن السلوك السياسي الفرنسي لا يساعد الشركات على العمل في مناخ طبيعي. ومع ذلك، تبقى “براغماتية رأس المال” أحد أبرز أدوات التهدئة في العلاقات الدولية، خاصة حين تفشل القنوات السياسية.
الجزائر اليوم ليست هي الجزائر في مطلع الألفية. لقد دخلت مرحلة جديدة من التموضع الإقليمي، وزادت من شراكاتها الاستراتيجية مع الصين، وروسيا، وتركيا، ودول مجموعة بريكس، ما يجعل من أوروبا، وفرنسا تحديدًا، مجبرة على مراجعة أدواتها في التعامل مع الجزائر، إن أرادت الحفاظ على مكانها في خارطة الشراكة المستقبلية.
أيام الصناعة ليست مجرد حدث اقتصادي، بل مؤشر على ما يمكن إنجازه حين تتحرك المصالح من دون ضجيج سياسي. لكنها – في ذات الوقت – ليست كافية لتجاوز التصدّعات العميقة التي خلفتها السنوات الأخيرة. الجزائر لا تريد القطيعة، لكنها لم تعد تقبل أن تُعامل كملحق اقتصادي أو منطقة نفوذ تقليدية. والاقتصاد، مهما كان محركًا، سيبقى رهينة الخطاب السياسي ما لم تُراجع باريس مواقفها، خاصة في الملفات التي تمسّ السيادة الجزائرية.
العلاقات الجزائرية–الفرنسية تمرّ بمرحلة اختبار حقيقية، والاقتصاد قد يكون بداية الطريق نحو مصالحة مشروطة. لكن الطريق لا يزال طويلًا، لأن الذاكرة مثقلة، والثقة هشّة، والواقع تغيّر. وما كان يُمرَّر بالأمس، لم يعُد صالحًا اليوم.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!
تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…