‫الرئيسية‬ الأولى واشنطن تلعب بالنار في الصحراء الغربية
الأولى - الوطني - مقالات - ‫‫‫‏‫أسبوع واحد مضت‬

واشنطن تلعب بالنار في الصحراء الغربية

واشنطن تلعب بالنار في الصحراء الغربية
حين أعلن أحد المستشارين الأمريكيين مؤخرًا عن مبادرة سلامٍ مرتقبة بين الجزائر والمغرب “خلال ستين يومًا”، بدت الفكرة في ظاهرها طموحة ومغرية. فبعد سنواتٍ من القطيعة الدبلوماسية والاحتقان الحدودي، كان من الطبيعي أن تثير كلمة “سلام” اهتمام المتابعين. غير أن ما لم يُقَل وقتها، هو أن المبادرة لم تكن مشروع وساطة حقيقية بقدر ما كانت غطاءً دبلوماسيًا لتحرك أمريكي أشمل يستهدف إعادة ترتيب موازين القوى في شمال إفريقيا، وتثبيت الرؤية الأمريكية للنزاع في الصحراء الغربية بما يخدم مصالح واشنطن وحلفائها في المنطقة.

توقيت التصريح لم يكن عفويًا. فقبل أيامٍ فقط من إعلان المبادرة، كانت الولايات المتحدة قد قدّمت لمجلس الأمن مشروع قرارٍ حول الصحراء الغربية اعتبرته جبهة البوليساريو “انحرافًا خطيرًا وغير مسبوق” عن مبادئ القانون الدولي. المشروع الذي يحمل بصمات السياسة الأمريكية منذ عهدة ترامب الاولى، دعم بشكلٍ صريح خطة “الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية”، متجاهلًا مبدأ تقرير المصير الذي يُشكّل حجر الزاوية في مسار الأمم المتحدة منذ سنة 1975. ردّ البوليساريو جاء سريعًا وحادًا، معلنةً أنها لن تشارك في أي مفاوضات قائمة على أساس النص الأمريكي، معتبرةً أنه يُقوّض الشرعية الدولية ويمسّ جوهر عملية السلام الأممية.

من هنا يتضح أن “مبادرة السلام” الأمريكية ليست منفصلة عن مشروع القرار الأمريكي، بل تمثل وجهه الناعم. فواشنطن، التي تسعى إلى تمرير رؤيتها داخل مجلس الأمن، احتاجت إلى خطابٍ موازٍ يُقدَّم كـ«دعوة للتقارب المغاربي» لتخفيف أثر انحيازها الصارخ للمغرب. بمعنى آخر، الولايات المتحدة أرادت أن تجمع بين العصا والجزرة، مشروع قرارٍ يُكرّس السيادة المغربية على الصحراء، ومبادرة “سلام” بين الجزائر والمغرب تُقدَّم كجهد دبلوماسي لتجميل الصورة. في العمق، الهدف من الاثنين واحد، تحويل مسار النزاع من قضية تصفية استعمار إلى خلافٍ ثنائي بين دولتين جارتين، وهو ما يعني تحييد الأمم المتحدة وإضعاف الموقف الجزائري.

الجزائر من جهتها لم تُبدِ حماسًا لهذه المبادرة، إذ رأت فيها محاولة لخلط الأوراق وإعادة تعريف دورها السياسي في الملف. فهي تعتبر نفسها دولةً مراقبة وعضوًا في الأمم المتحدة يدعم الحل السياسي وفق الشرعية الدولية، وليست طرفًا مباشرًا في النزاع. أي مبادرة تتجاهل هذا التوصيف أو تضع الجزائر في موقع الطرف المفاوض تُعدّ بالنسبة لها خروجًا عن منطق القانون الدولي ومحاولة مكشوفة لإقحامها في تسوية لا تخصّها مباشرة.

اللافت أن هذه “المبادرة” جاءت أيضًا في لحظةٍ حساسة تشهد فيها المنطقة تصعيدًا في السياسات الغربية تجاه روسيا وإيران، وتوترًا اقتصاديًا عالميًا مرتبطًا بأمن الطاقة. في هذا السياق، تبدو واشنطن معنية بإعادة هندسة التحالفات في شمال إفريقيا، وتحديدًا محاصرة النفوذ الجزائري المتنامي في الساحل وإفريقيا جنوب الصحراء، بعد انسحاب النفوذ الفرنسي وتراجع الدور الأوروبي. فالمغرب، من وجهة النظر الأمريكية، هو بوابة التطبيع مع “إسرائيل” وحليفٌ أمني مهم في المحيط الأطلسي، بينما الجزائر تمثل مركز ثقلٍ سياسي واقتصادي مستقل يصعب إخضاعه. ومن هنا فإن “السلام” في القراءة الأمريكية ليس هدفًا في ذاته، بل وسيلةٌ لإعادة ضبط المنطقة على إيقاع المصالح الأمريكية.

أما جبهة البوليساريو، فرفضها للمسودة الأمريكية أعاد الملف إلى نقطة الصفر، وأفشل عمليًا أي حديث عن مبادرة سلامٍ واقعية. إذ لا يمكن لأي عملية سياسية أن تُستأنف دون مشاركة الطرف الصحراوي المعترف به أمميًا كممثلٍ شرعي للشعب الصحراوي. تجاهل هذا المعطى يعني ببساطة إلغاء الشرعية الدولية وإحياء منطق القوة بدل التفاوض.

هكذا يتضح أن المبادرة الأمريكية ليست دعوة للسلام بقدر ما هي اختبار سياسي للجزائر والبوليساريو معًا. فواشنطن تراهن على الوقت وعلى ضغوط مجلس الأمن لتمرير رؤيتها، لكنها تُخاطر بفقدان مصداقيتها كوسيط محايد، خصوصًا بعد انكشاف انحيازها الميداني والدبلوماسي للمغرب. أما الجزائر، التي خبرت المناورات الدولية منذ حرب التحرير، فهي تدرك أن أي تسوية لا تمر عبر الشرعية الدولية ولا تحترم مبدأ تقرير المصير ليست سوى صفقة مؤقتة. ولهذا يبدو موقفها أكثر اتزانًا وصلابة، إذ ترفض الانجرار إلى منطق “السلام المفروض” وتتمسك بخيار الشرعية كخط دفاعٍ عن استقرار المنطقة.

من الواضح أن الجزائر تتعامل مع كل المبادرات الأجنبية ببراغماتية حذرة، خاصة حين تتعلق بمسائل تمسّ السيادة الإقليمية ومبادئ تقرير المصير. فالموقف الرسمي الجزائري، كما عبّر عنه مرارًا رئيس الجمهورية ووزارة الخارجية، يستند إلى مرجعيات الأمم المتحدة ويرفض أي حلول تتجاوزها أو تُفرغها من مضمونها. الجزائر لا تعارض الحوار، لكنها ترفض أن يكون بديلاً عن القانون الدولي أو وسيلة لفرض واقعٍ جديد يخدم مصالح قوى خارجية.

تؤكد الجزائر أن السلام الحقيقي في المنطقة لا يُبنى على المساومات، بل على الاحترام المتبادل والاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وأنها ستظلّ تدعم كل مسعى جادٍ يهدف إلى تسوية عادلة ودائمة في الصحراء الغربية، شرط أن يتم في إطار الأمم المتحدة وتحت رعاية أمينها العام، وبمشاركة كل الأطراف المعنية وفقًا لقرارات الشرعية الدولية.

بذلك، يظلّ موقف الجزائر ثابتًا ومبدئيًا، لا سلام يُفرض من الخارج، ولا تسوية خارج القانون، ولا استقرار دائم دون عدالة. فسلامٌ لا يقوم على الحق، ليس سلامًا بل هدنة هشّة، والجزائر ترفض أن تكون شاهدًا على هدنةٍ أخرى تُمهّد لحربٍ جديدة


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

كيف يواصل اليمين الفرنسي صناعة استعمار جديد عبر خطاب الكراهية؟

يقدّم المؤرخ الفرنسي آلان روسيو في تحليله المنشور بجريدة «لومانيتي» قراءة معمقة لواحد من أ…