‫الرئيسية‬ الأولى وثائقي يكسر الصمت عن جرائم فرنسا بالجزائر
الأولى - فنون وثقافة - 23 يوليو، 2025

وثائقي يكسر الصمت عن جرائم فرنسا بالجزائر

وثائقي يكسر الصمت عن جرائم الجزائر التي لا تسقط بالتقادم
 يُعرض الوثائقي المؤثر “Papa, t’étais où en Algérie ؟” (أبي، أين كنت في الجزائر؟) على شاشة قناة France 3،، وهو عمل مزلزل في صدقه وعمقه، يفتح جرحًا ظلّ مغلقًا لعقود داخل عائلة فرنسية تنتمي إلى منطقة “دو-سيفر”، ومثلها آلاف العائلات الفرنسية التي خيّمت عليها ظلال الحرب الجزائرية دون أن تُروى القصص أو تُسمع الأصوات. الوثائقي من إخراج فرانسوا إيميه، وهو ليس مجرد مخرج، بل ابن أحد أولئك الصامتين، وبهذا، فإن الفيلم ليس استقصاءً خارجيًا بل غوص في قلب صمت عائلي طويل، واختبار للذاكرة والوجع على المستوى الشخصي والوطني معًا.

يبدأ الفيلم بجملة بسيطة لكنها مشحونة بكل ما يعنيه الكتمان: “من أبي، أعرف كل شيء… إلا ما يتعلق بالجزائر.” هذه العبارة ليست فقط إعلان نوايا سردية، بل مفتاحٌ لرحلة يشرع فيها المخرج لا ليُجيب فقط عن سؤال تاريخي، بل ليفتح حوارًا مؤجلًا مع الأشباح: أشباح الماضي، الحرب، والصمت. والد المخرج، مارسيل، كان أحد الجنود الذين خدموا في الجزائر بين 1954 و1962، إلى جانب ثلاثة من إخوته: ميشيل، إيفون، وأوغست. أربعة إخوة من نفس العائلة أُرسلوا إلى حرب لم يكن يُسمح لها حتى أن تُسمى كذلك، فعادت أجسادهم إلى قريتهم، بينما بقيت ذاكرتهم خلف الحدود، في العتمة.

في صمتهم الطويل عن تلك الفترة، تكثفت كل تناقضات حرب الجزائر، الحرب التي لم تُعلن رسميًا، ولم يُسمح بتناولها في الخطاب العلني لسنوات طويلة، رغم أنها كانت الأقرب زمنيًا ونفسيًا إلى جيل الستينات والسبعينات، أقرب من الحربين العالميتين حتى. لكن كما تُشير المؤرخة رافاييل برانش، فإن هذا القرب لم ينعكس في الخطاب الاجتماعي أو العائلي، بل على العكس، كانت هناك “حرب بلا كلمات”، وكأن الصمت نفسه كان موقفًا جماعيًا غير معلن. في هذا السياق، يُصبح فيلم إيميه تجربة تحرير فردية وعائلية وجماعية، كأنما يُعيد للزمن حقه في الاستذكار.

من خلال مقابلات مع عمومته وشقيقته وأفراد الأسرة، يفتح المخرج حوارًا يُلامس التجربة بكل ثقلها، بعضهم اعتقد أنه لا يملك ما يُقال لأنه لم يكن في ساحة القتال، وآخرون لم يُفكروا في الحديث أساسًا لأن أحدًا لم يسألهم من قبل. إلا أن الجميع، كما يُظهر الفيلم، وجدوا في المخرج سببًا للكلام. “لو لم تكن أنت، ما كنا لنقول شيئًا”، هكذا أخبروه. أحد أكثر اللحظات إثارة في الفيلم تأتي عبر صوت أوغست، الأخ الأكبر الذي كتب لاحقًا، في سن متأخرة، مذكراته عن تلك السنوات السوداء، في كتاب تجاوزت صفحاته الست مئة، كأنه يفكك الصمت سطرًا سطرًا. هوغو، حفيد مارسيل، يظهر في الفيلم أيضًا، ليمثل الجيل الثالث الذي لم يخض الحرب لكنه ورث الصمت، وربما الحنين، وربما الأسطورة. يظن فرانسوا أن والده قد يكون قال شيئًا لهوغو، شيئًا لم يُقل له ولا لإخوته. وهكذا يوسّع الوثائقي نظرته من مستوى الجيل الأول إلى دينامية انتقال الكلمة أو غيابها عبر الأجيال.

النقد الصحفي للفيلم كان مُجمِعًا على وصفه بـ”الضروري”، و”المشرق”، و”الصادق”. مجلة “Télérama” خصته بمراجعة تُشيد بعفويته وقدرته على ملامسة العصب المكشوف، دون أن يقع في الميلودراما. ترى المجلة أن الوثائقي يلتقط شيئًا نادرًا، لحظة التقاء الصدق الشخصي بالشهادة التاريخية. ليس صدفة أن تقرر العائلة الكلام الآن، وقد بلغ معظمهم أرذل العمر، وكأن الذاكرة لم تعد عبئًا بقدر ما أصبحت واجبًا أخلاقيًا. وقد اختار المخرج بعناية أن تُصوَّر المقابلات في الحديقة، لا في مكاتب أو أماكن رسمية، لأن التاريخ هنا ليس في الأرشيف فقط، بل في النَفَس، في الجسد، في الملامح، في نظرة تتوقف فجأة كأنها ارتطمت بصورة لا تريد الخروج.

يوصف الفيلم بأنه “تحقيق ذاتي شجاع”، لا يكتفي بالبوح، بل يخوض في أعماق التجربة العسكرية، بما فيها من تناقضات. العمل لا يتجنب الحديث عن الاغتصاب، أو التعذيب، أو الطقوس الوحشية التي صاحبت الاحتلال العسكري. حتى أن بعض النقاد ربطوا بينه وبين روايات الذاكرة الجمعية لما بعد الحرب، مثل أحداث أورادور سور غلان، حيث بقي الرعب في الذاكرة الجماعية دون محاكمة. لهذا، لم يكن مفاجئًا أن يُرفض دعم الفيلم في مرحلة الإنتاج، ربما بسبب جرأته، أو ببساطة لأن رواية الماضي لا تزال تخيف المؤسسات الرسمية.

أكثر ما يميز الفيلم هو قدرته على احترام ما لا يُقال بقدر ما يُقال. هناك لحظات صمت تطول، لكنها ليست فراغًا؛ بل هي صمت ناطق، مكتنز بالإيحاءات، لا يقل بلاغة عن الشهادات الكلامية. كما في المشهد الذي يتوقف فيه أحد الأعمام عن الكلام، ينظر بعيدًا، ثم يهمس: “لم أكن أظن أن هذا سيتوجب عليّ قوله ذات يوم.” في تلك اللحظة تحديدًا، لا يعود الفيلم وثائقيًا فقط، بل يتحول إلى عمل تأملي، يختبر هشاشة الذاكرة، والحاجة إلى شفاء بطيء ولكنه ضروري.

في ختام الفيلم، لا يمنحنا فرانسوا إيميه أجوبة قاطعة. بل يُقدم ما هو أثمن من الإجابة، المساحة الآمنة للطرح، للاعتراف، للتفكر، وربما للغفران. في زمن تتصارع فيه الروايات حول الاستعمار والهوية والتاريخ، يبدو هذا الفيلم وكأنه دعوة متأخرة، صادقة، موجهة إلى كل من عاش ولم يتكلم، أو سمع ولم يجرؤ على السؤال. “أبي، أين كنت في الجزائر؟” ليس مجرد سؤال من ابن لأبيه، بل هو سؤال فرنسا كلها لنفسها. والجواب، كما يبدو، كان ينتظر هذا الفيلم ليبدأ.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …