وهم الضربة القادمة… وتضليل كوهين و”الحركى 2.0″
في الوقت الذي تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط تحولًا عسكريًا غير مسبوق، أعادت الضربة الإيرانية الدقيقة على العمق الإسرائيلي رسم موازين الردع في المنطقة. هذه العملية، التي تجاوزت خلالها الصواريخ الإيرانية منظومات الدفاع الثلاثية الشهيرة – القبة الحديدية، مقلاع داوود، والباتريوت الأمريكي – شكّلت صدمة استراتيجية لدولة كانت تتفاخر لعقود بتفوقها التكنولوجي والأمني.
لكن المفارقة الكبرى لم تكن في حجم الخرق الإيراني وحده، بل في الطريقة التي تحوّل فيها النقاش داخل بعض الدوائر الإسرائيلية والإعلامية نحو أطراف لا علاقة مباشرة لها بالصراع الحالي. وعلى رأس هذه الأطراف، الجزائر.
على منصة “إكس”، خرج الإعلامي اللبناني –الصهيوني إيدي كوهين بتغريدات تحدث فيها عن الجزائر كهدف محتمل لضربة إسرائيلية مستقبلية، مبررًا ذلك بدعمها المعلن لجبهة البوليساريو، التي وصفها بـ”المنظمة الإرهابية”. ورغم أن هذا التصريح لم يستند إلى أي معطى رسمي أو عسكري حقيقي، فقد وجد صداه لدى بعض الأصوات الإعلامية التي تنتمي لما يُعرف بـ”الحركى 2.0″، وهو مصطلح يُطلق في الجزائر على بعض الأفراد أو النخب الذين يُنظر إليهم باعتبارهم امتدادًا لتيار سياسي أو فكري يُعارض الثوابت الوطنية. يُستخدم “الحركى 2.0” للإشارة إلى من يُتَّهمون بتبني خطاب مناهض للسيادة الجزائرية، أو بممارسات تتقاطع أحيانًا مع أجندات أجنبية. وقد وُثق في بعض الحالات تورّط عناصر من هذا الطيف في حملات إعلامية موجّهة، أو في اتصالات مشبوهة مع جهات خارجية، وفق ما ورد في تقارير رسمية وأمنية.
لا يحمل المصطلح فقط دلالة إيديولوجية، بل يرتبط أيضًا بتاريخ معقّد من التوترات بين مكوّنات المجتمع الجزائري، خاصة خلال فترة ما بعد الاستعمار، حين ارتبط مصطلح “الحركى” بالأشخاص الذين تعاونوا مع السلطات الفرنسية إبان الثورة التحريرية. غير أن هذا الخطاب، الذي يُقحم الجزائر في دوائر التهديد، يتجاهل واقعًا جيوسياسيًا مختلفًا تمامًا، تحكمه توازنات معقدة، واتفاقيات دولية، وحقائق ميدانية لا يمكن القفز عليها.
صحيح أن الجزائر تختلف عن إيران من حيث العقيدة السياسية، والتموقع الجغرافي، وطبيعة النظام السياسي، غير أن موقعها الاستراتيجي يجعل من أي عمل عسكري ضدها مغامرة محفوفة بتعقيدات جيوسياسية، خاصة أن الجزائر تُعد امتدادًا جغرافيًا للواجهة الجنوبية لأوروبا. ويكفي أن نشير إلى أن البحر الأبيض المتوسط لا يفصل الجزائر عن إيطاليا وإسبانيا سوى بضع مئات من الكيلومترات، وأن أي توتر في هذا المجال الحيوي سيطال الأمن الأوروبي مباشرة. من جهة أخرى، تملك الجزائر جيشًا يُصنّف من بين أقوى الجيوش في القارة الإفريقية والعالم العربي، حيث احتلت المرتبة 26 عالميًا حسب تقرير Global Firepower 2024. كما أنها تُعتبر من الدول القليلة التي تمتلك قاعدة صناعات دفاعية متطورة نسبيًا، ولديها علاقات تسليح متعددة الاتجاهات (روسيا، الصين، بعض الدول الأوروبية)، ما يمنحها هامشًا واسعًا من الاستقلالية العسكرية.
الصحراء الغربية… الملف الذي يُوظّف خارج سياقه
قضية الصحراء الغربية، التي تُستعمل اليوم كمبرر سياسي في خطاب بعض المحللين، تمثل نزاعًا دوليًا عمره أكثر من نصف قرن، وهو نزاع معترف به في الأمم المتحدة كقضية تصفية استعمار. وقد أُدرجت الصحراء الغربية على قائمة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي منذ 1963، وأصدرت محكمة العدل الدولية سنة 1975 رأيًا استشاريًا ينفي وجود روابط سيادة قانونية بين المغرب والصحراء. ولم يكن للجزائر أي دور مباشر في بداية هذا النزاع، إلا أنها، منذ السبعينات، دعمت مبدأ تقرير المصير، وهو ما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة ومواقف الاتحاد الإفريقي. كما أن جبهة البوليساريو لا تزال تحظى باعتراف أممي كممثل شرعي للشعب الصحراوي، وتشارك بشكل منتظم في مفاوضات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة.
تصريحات من نوع ما صرّح به كوهين يمكن تصنيفها ضمن “خطاب الهروب إلى الأمام”، خاصة في ظل الوضع الداخلي الحرج لإسرائيل حاليًا. فحسب أرقام معهد الديمقراطية الإسرائيلي (يناير 2024)، أظهرت استطلاعات أن أكثر من 58% من الإسرائيليين فقدوا الثقة في قدرة الجيش على حمايتهم من تهديدات خارجية، وهو ما انعكس في ارتفاع غير مسبوق في طلبات الهجرة، خاصة نحو أوروبا وكندا. وفي هذا السياق، يصبح توجيه الرأي العام نحو “عدو خارجي جديد” أسلوبًا تقليديًا لصرف الانتباه عن المشكلات البنيوية. وهنا، تلعب الأصوات الإعلامية غير المسؤولة دورًا خطيرًا في تضليل الرأي العام، سواء في الداخل الإسرائيلي أو في بعض الفضاءات المغاربية التي تعيد إنتاج هذا الخطاب دون تمحيص.
الجزائر، رغم أنها تتبنى دبلوماسية هادئة وغير تصادمية في أغلب المحافل، إلا أنها عبّرت في أكثر من مناسبة عن استعدادها لحماية سيادتها ومصالحها الاستراتيجية. وفي هذا السياق، يُذكر تصريح رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أول السعيد شنقريحة، في يناير 2023، حين قال: “الجيش الجزائري لن يكون متفرجًا إذا ما تعرّض أمن الوطن لأي تهديد مباشر أو غير مباشر”.
كما عززت الجزائر من قدراتها الدفاعية في السنوات الأخيرة، حيث خصصت نحو 23 مليار دولار في قانون المالية 2023 للإنفاق العسكري، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ البلاد، ويؤشر على تحوّل في عقيدتها الدفاعية نحو مزيد من الجاهزية.
إن طرح الجزائر كهدف محتمل في سياق الضغوط الإقليمية التي تعيشها إسرائيل، لا يخدم إلا من يسعى إلى تعقيد الأوضاع في شمال إفريقيا، وتشتيت الانتباه عن الأسباب الحقيقية للتوتر. وفي زمن تعاظم التحديات الأمنية والاقتصادية في المنطقة، لا بد من خطاب إعلامي تحليلي متزن، يحترم الواقع، ويستند إلى معطيات موثوقة، بدل ترويج فرضيات لا تصمد أمام المنطق ولا أمام الجغرافيا ولا أمام القانون الدولي.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…