شهادة صنصال تُعرّي القضاء الفرنسي في قضية بوشوارب؟!
تمثل قضية رفض القضاء الفرنسي تسليم عبدالسلام بوشوارب، الوزير الجزائري الأسبق في عهد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، واحدة من أكثر القضايا حساسية في مسار العلاقات الجزائرية–الفرنسية خلال السنوات الأخيرة، ليس فقط بسبب ثقل الملف القضائي المرتبط بالفساد وتبعاته السياسية، بل أيضاً بسبب المبررات التي اعتمدتها محكمة الاستئناف في إيكس-أون-بروفانس لتبرير رفضها النهائي، والتي اعتبرت أن تسليم الرجل البالغ من العمر 72 عاماً قد يعرضه لمعاملة «لاإنسانية» بالنظر إلى حالته الصحية. غير أن هذا المبرر يأخذ دلالات مغايرة عند وضعه في سياق تجربة قضائية وسجنية حديثة وموثّقة مثل تلك التي مرّ بها الكاتب بوعلام صنصال، والتي تكشف عن معطيات تعيد صياغة تقييم البيئة القضائية والإنسانية في الجزائر، وتطرح سؤالاً صريحاً حول ما إذا كان القرار الفرنسي مستنداً بالفعل إلى الاعتبارات الإنسانية، أم أن خلفيات أخرى غير معلنة هي التي ترجّح الكفة تحت غطاء قانوني.
فمنذ أكتوبر 2023، قدّمت الجزائر ست طلبات متتالية إلى السلطات الفرنسية من أجل تسليم عبدالسلام بوشوارب، المحكوم عليه في الجزائر بخمس عقوبات بالسجن لمدة عشرين سنة لكل منها في قضايا فساد واستغلال وظائف عليا في الدولة، إضافة إلى متابعته في ملف سادس ذي طابع مالي. وبرغم ثقل الإدانة القضائية الصادرة ضده، المثبتة بأحكام نهائية، وبالرغم من “الضمانات الرسمية” التي قدمتها الجزائر للجانب الفرنسي يوم 13 فبراير 2025 بشأن سلامته ومعاملته وفق المعايير القانونية، فإن الغرفة الجنائية في إيكس-أون-بروفانس قررت إنهاء الإجراءات نهائياً، معتبرة أن تسليمه قد يؤدي إلى «عواقب ذات خطورة استثنائية»، على حد وصف قرارها، بالنظر إلى سنه ووضعه الصحي. واستند القرار إلى المادة 3 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تحظر تعريض أي شخص للتعذيب أو للمعاملة المهينة، وإلى المادة 5 من الاتفاقية القضائية الثنائية بين البلدين، التي تتيح رفض التسليم إذا كان من شأنه أن يعرض الشخص لمخاطر طبية أو إنسانية شديدة.
وبينما عبّر بوشوارب عن «ارتياحه الكبير وثقته في القضاء الفرنسي»، وظهر باكياً بين ذراعي ابنته فور صدور الحكم، فإن محاميه بنجامان بوهبوت اعتبر القرار «منطقياً» و«قانونياً»، مضيفاً أن أي تسليم كان «سيشكّل حكماً بالموت». كما ذهب أبعد من ذلك حين أكد أن ملاحقات بوشوارب في الجزائر «مبنية على خلفيات سياسية»، وأنه كان «ضحية لمرحلة ما بعد بوتفليقة». غير أن الرواية الجزائرية جاءت على النقيض تماماً؛ فقد شددت محامية الدولة الجزائرية آن–صوفي بارتايكس أمام المحكمة على أن الجزائر قدمت بالفعل كل الضمانات الضرورية، وأكدت أن بوشوارب «سرق أموال الجزائريين» وأنه «مدان بحكم قضائي ويجب أن يخضع للمساءلة». وأضافت أن الجزائر تطالب بحقها القانوني في محاكمته، تماماً كما تطالب فرنسا عادة بتسليم مواطنيها الفارين من العدالة.
ويزداد هذا التباين تعقيداً حين يوضع إلى جانب شهادة حديثة وذات مصداقية عالية قدمها بوعلام صنصال بعد الإفراج عنه بعفو رئاسي في نوفمبر 2025. فالرجل مرّ عبر تجربة قضائية كاملة داخل الجزائر، توقيف، تحقيق، محاكمة ابتدائية، استئناف، ثم طعن، وصولاً إلى العفو. هذه المراحل، بكل ما تحمله من ثقل سياسي وإعلامي، تؤكد أن المتقاضي أمام القضاء الجزائري لا يُجرّد من آليات المراجعة، وأنه يتمتع بكل الضمانات الإجرائية المتاحة، حتى في الملفات ذات الحساسية السياسية. والأهم أن صنصال، بعد خروجه، لم يتحدث عن أي شكل من أشكال التعذيب أو سوء المعاملة الجسدية، بل أثنى على جانب من المعاملة التي تلقاها داخل المؤسسة العقابية. فقد أكد أنه تلقّى العلاج الطبي كلما احتاجه وأن الطاقم الصحي قام بواجبه، كما تحدث عن احترام إنساني من بعض الحراس وتعامل مهني لم يتجاوز حدود القانون. ورغم اعترافه بوجود ضغوط نفسية وفقدان الخصوصية والتفتيش الروتيني، فإنه نفى وجود أي ممارسات تعسفية منهجية أو تهديد لسلامته الجسدية.
إن قراءة قرار القضاء الفرنسي الرافض لتسليم عبدالسلام بوشوارب في ضوء شهادة صنصال تجعل المبرر الإنساني الذي تبنته فرنسا مبرراً هشاً لا يصمد أمام الوقائع الميدانية. فشهادة صنصال، التي جاءت من شخصية نقدية حرة وغير خاضعة لأي تأثير سلطة، تقدّم رواية متوازنة تُظهر أن السجون الجزائرية — رغم قسوة التجربة النفسية — لا تشكل خطراً على حياة السجين ولا بيئة غير إنسانية بالمعنى القانوني. فإذا كان صنصال، والذي اصبح رمز ثقافي ذو وزن دولي، قد أمضى فترة سجنه دون أن يتعرض لمعاملة تهدد حياته أو كرامته الجسدية، فكيف يمكن قبول الادعاء بأن بوشوارب — المحكوم في قضايا مالية فحسب — معرض لـ«خطر استثنائي» على حياته؟ هذه المفارقة تكشف تناقضاً واضحاً في الموقف الفرنسي، خاصة أن صنصال لم ينطق من داخل الجزائر بل من أوروبا، في فضاء إعلامي يتيح له قول كل ما يريد دون ضغط، مما يمنح شهادته مصداقية مضاعفة.
ويتضح ضعف الأساس الإنساني للقرار الفرنسي أكثر حين ننظر إلى أن الجزائر قدمت ضمانات مكتوبة بشأن سلامة بوشوارب وظروف احتجازه، ومع ذلك تم تجاهلها. لكن شهادة صنصال — غير الصادرة عن الدولة — تؤكد عمليّاً أن الضمانات الجزائرية ليست مجرد صيغة بروتوكولية، بل تجد ترجمتها الواقعية على مستوى المؤسسات العقابية. وهذا ما يجعل الحجة الفرنسية منفصلة عن الواقع، إذ لم يعكس القرار أي اختبار فعلي أو مقاربة ميدانية، بل استند إلى فرضيات لا تُثبتها الوقائع الحديثة داخل السجون الجزائرية كما رواها صنصال.
ولا يمكن تجاهل السياق الدبلوماسي المتوتر بين البلدين، سواء في ملف الهجرة أو في التصريحات السياسية المتبادلة، وهو سياق يخلق مناخاً قد تتأثر به القرارات القضائية من حيث الصورة العامة، حتى وإن بدت في بنيتها قانونية. لكن شهادة صنصال، التي جاءت في توقيت حساس، تحوّلت إلى عامل يفضح هشاشة الذريعة الإنسانية، لأنها تقدّم معطيات موضوعية ومباشرة تُسقط ورقة التوت عن القرار الفرنسي وتجعله أقرب إلى موقف مبني على تقديرات ظرفية منه إلى حكم قائم على حقائق ميدانية صلبة.
وفي ضوء كل هذه المعطيات، يتبين أن شهادة صنصال لا تؤثر على هامش النقاش فقط، بل تضرب صميم المبررات التي بنت عليها فرنسا قرارها. فهي تُظهر أن المنظومة العقابية الجزائرية — مهما كانت قابلة للنقد — لا تُشكّل تهديداً للحياة ولا بيئة تعذيبية كما حاول القرار الفرنسي الإيحاء. وبهذا تصبح شهادته وثيقة واقعية تُعرّي قرار القضاء الفرنسي، وتكشف أن المبرر الإنساني الذي تم تقديمه للرأي العام الأوروبي أقل تماسكاً بكثير مما أرادت باريس أن يبدو عليه، وأن قرار عدم التسليم، مهما تم تغليفه بلغة قانونية، لا يمكن فصله عن الحسابات التي تتجاوز الإطار القضائي الضيق إلى مساحات سياسية أوسع بكثير.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجيش الوطني الشعبي يحبط محاولات إدخال نحو 10 قناطير من الكيف عبر الحدود المغربية
أعلن الجيش الوطني الشعبي، في حصيلته العملياتية الصادرة هذا الأربعاء، عن إحباط محاولات إدخا…






