ماذا يعني إلغاء اتفاقية ترسيم الحدود؟
يخرج علينا، مرة أخرى، عبد الإله بن كيران، الإخوانجي المعروف وممثل التيار المطبِّع مع الكيان الصهيوني في المروك، ليُدلي بتصريحات مغلوطة حول اتفاقية ترسيم الحدود بين الجزائر والمروك، وهي الاتفاقية التي نُشرت في الجريدة الرسمية الجزائرية في شهر جوان 1973، وصادق عليها البرلمان الجزائري آنذاك، قبل أن يصادق عليها البرلمان المروكي متأخرًا في تسعينيات القرن الماضي. وكالعادة، يختار بن كيران أن يتحدث بلسان أبواق المخزن، مروّجًا لأكاذيب لا أساس لها من الصحة، ومتعمدًا الخلط بين اتفاقية ترسيم الحدود واتفاقية أخرى تتعلق بتأسيس شركة مختلطة جزائرية–مروكية لاستغلال منجم غار جبيلات الجزائري.
والحقيقة التي يتجاهلها بن كيران، أو يتجاهلها عمدًا، أن لا علاقة قانونية ولا سياسية ولا تعاقدية بين الاتفاقيتين، سوى مصادفة تقنية بحتة تتمثل في نشرهما في العدد نفسه من الجريدة الرسمية الجزائرية. لا تتضمن أي من الاتفاقيتين أي شرط أو إحالة أو ترابط يُفيد بوجود علاقة سببية أو قانونية بينهما. غير أن العقل المخزني، الذي لا يقرأ، وإن قرأ لا يفهم، يسعى إلى تضليل الرأي العام المروكي، وإيهامه بأن اتفاقية ترسيم الحدود كانت مشروطة باتفاقية استغلال غار جبيلات، وهي شركة لم تُؤسَّس أصلًا، ولن تُؤسَّس مستقبلًا، لعدم توفر الشروط السياسية والاقتصادية والسيادية لذلك.
ربط بن كيران المتعمد بين الاتفاقيتين لا يهدف إلا إلى إحراج الجزائر، والكذب على الرأي العام المروكي، ورفع منسوب العداء والكراهية تجاه الجزائر إلى مستويات أعلى مما هي عليه اليوم. غير أن الحقيقة، ولمن يكلّف نفسه مجرد الاطلاع على نص اتفاقية ترسيم الحدود، تؤكد أن إلغاء هذه الاتفاقية يصب في مصلحة الجزائر بنسبة تفوق 2000 بالمئة، لأنها اتفاقية قامت أساسًا على مرجعيات استعمارية جائرة.
فاتفاقية ترسيم الحدود تعتمد في تحديدها لمعالم الحدود على اتفاقية لالة مغنية لسنة 1845، التي أُبرمت بين فرنسا الاستعمارية وسلطان المروك في فترة كانت فيها الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي. وهي اتفاقية ظالمة جرى بموجبها اقتطاع أراضٍ جزائرية شاسعة، من بينها كامل منطقة تافيلالت، ومنطقة السعيدية، ووجدة، وتم تقديمها كـ«هدية سياسية» لسلطان مراكش آنذاك، قبل توحيدها لاحقًا مع إمارة فاس لتشكيل الكيان المعروف اليوم بالمملكة المروكية. كما تُحيل اتفاقية ترسيم الحدود إلى معاهدات أخرى لسنتي 1902 و1905، وكلها معاهدات استعمارية لا علاقة لها بالجزائر المستقلة، ولم تكن الجزائر طرفًا فيها لا من قريب ولا من بعيد.
ومن بين الأسباب الجوهرية لإبرام اتفاقية لالة مغنية سنة 1845، سعي فرنسا الاستعمارية إلى تفكيك البنية القبلية الجزائرية المقاومة، خاصة القبائل التي كانت تقاوم التوسع العسكري الفرنسي في غرب البلاد، وعلى رأسها قبائل أولاد سيدي الشيخ. فقامت فرنسا، عبر التنازل عن مساحات جزائرية واسعة لصالح السلطة المروكية، بتقسيم هذه القبائل، وإضعاف المقاومة الشعبية، وهو ما مكّنها لاحقًا من السيطرة على المنطقة.
وعليه، فإن إلغاء اتفاقية ترسيم الحدود، كما لمح إليه بن كيران رغم المصادقة عليها من برلماني المروك والجزائر، وهو ما يكشف في حد ذاته حالة “اللا دولة” لدى المخزن وعدم احترامه حتى لقوانينه الداخلية أو لالتزاماته الدولية، يمثل مصلحة جزائرية خالصة. فإلغاء الاتفاقية يفتح المجال أمام استرجاع الجزائر لحدودها التاريخية الأصيلة، التي كانت تمتد طبيعيًا إلى وادي ملوية شمالًا، ووادي نون جنوبًا، كما يؤكد ذلك ابن خلدون في “المقدمة”، وتثبته عشرات الكتب والوثائق التاريخية الجزائرية والأجنبية.
وإذا كان بن كيران، الذي شغل سابقًا منصب رئيس الحكومة المروكية، قد أثبت هو وإخوانجية المروك “وطنيتهم” من خلال دفاعهم المستميت عن الملكية، فإن المقارنة المؤلمة تبرز في سلوك بعض إخوانجية الجزائر، الذين لا تعنيهم المصالح الوطنية رغم خطاباتهم الجوفاء، ويضعون ولاءهم الإيديولوجي فوق كل اعتبار سيادي، حتى لو اقتضى الأمر خدمة أي أجنبي تافه، ملتحٍ أو معمّم، كما رأينا مؤخرًا في تصريحات إخوانجي “جزائري” تخوّن رئيس السلطة الفلسطينية من أرض أول بلد مسلم مطبِّع مع الكيان الصهيوني، في تجاوز خطير لكل المواقف الرسمية للدولة الجزائرية التي تعترف بالسلطة الفلسطينية الشرعية وتدعمها سياسيًا ودبلوماسيًا.
إن تصريحات بن كيران حول اتفاقية ترسيم الحدود لا تمثل فقط تنكرًا لقوانين بلده، بل تمثل أيضًا استخفافًا بالقانون الدولي، وتغذية متعمدة لنظرة عدائية تجاه الشعب الجزائري. ففكر هذا الإخوانجي هو فكر توسعي قديم، يُغلَّف بخطاب ديني أخوي كاذب، ويُستعمل لاستعطاف بعض السذج، بينما لا يجرؤ صاحبه على الاعتراف بأي خطأ ارتكبته مملكته في حق الجزائر، منذ اتفاقية 1845، مرورًا بالعدوان العسكري لسنة 1963، وصولًا إلى تبني المشروع التوسعي الذي صاغه علال الفاسي كذبًا وبهتانًا، والمساهمة المباشرة في احتلال الصحراء الغربية.
وعليه، فإن الرسالة واضحة، إلغاء اتفاقية ترسيم الحدود يصب في مصلحة الجزائر، ونرحب به أحر الترحيب. والجزائر، بتاريخها، ووثائقها، وحدودها الحقيقية، ليست في موقع دفاع، بل في موقع حق ثابت لا يسقط بتصريحات إخوانجية ولا بأوهام مخزنية.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
لماذا يُحارَب المدرب الجزائري حين ينجح؟
بدأتُ أقتنع أكثر فأكثر بأنّ المدرب الوطني، كلما كان جزائريًا، كلما تصاعدت الأصوات لمهاجمته…






