العلاقات الجزائرية-الصينية: شراكة استراتيجية نحو التنمية والتعاون الشامل
تعتبر العلاقات الجزائرية-الصينية مثالا يحتذى به ونموذجا ناجحا للكيفية التي ينبغي أن تكون عليها العلاقات بين الدول. فالعلاقات بين البلدين متجذرة وعميقة، ولا زال صناع القرار في الصين والجزائر يسعيان لتمتين هذه العلاقات أكثر وأكثر والارتقاء بها إلى شراكة استراتيجية شاملة.
الجذور التاريخية للعلاقات
تعتبر الصين بالنسبة للجزائر من أكثر الدول الصديقة تاريخيا. تعود جذور العلاقات بينهما إلى ذلك الدعم التاريخي الذي لم يدخره صانع القرار الصيني تجاه الجزائر في مرحلة الكفاح المسلح من أجل الاستقلال، حيث كان موقف الصين مشرفا تجاه القضية الجزائرية، والذي تجلى في دعمها لثورة التحرير منذ مؤتمر باندونغ 1955، مرورا باعتراف الصين بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية سنة 1958 كأول دولة غير عربية تقوم بهذه الخطوة. لقد شهدت العلاقات الثنائية بين البلدين انسجاما وتوافقا منذ بداية الاستقلال، إذ يشهد التاريخ على مساندة الصين لمهندسي بناء الدولة الفتية في مرحلة ما بعد الاحتلال، وصولا لبناء ما يعرف حاليا بـ”الجزائر الجديدة”. بالمقابل، لا يمكن إغفال مرافعة ودعم الجزائر من أجل استعادة الصين لمقعدها في مجلس الأمن سنة 1971.
وقد طبع مسار العلاقات بين البلدين توافقا في الرؤى والمواقف كل اتجاه الآخر، ما أعطى بعدا استراتيجيا لهذه العلاقات. لطالما دافعت الصين عن الجزائر ومواقفها، وهو ما يتجلى في تصريحات صناع القرار وكبار الساسة في هذا البلد التي تؤكد كلها رفضهم بشكل قاطع التدخل في الشؤون الداخلية للجزائر في كل مرة تتعرض فيها هذه الأخيرة لضغوطات عند كل أزمة تواجهها، لا سيما من المحتل السابق لها.
التعاون والشراكة الاقتصادية بين الجزائر والصين تمكنت الصين منذ سنة 2013 من سحب البساط من تحت أقدام دول أوروبية كانت المهيمنة على السوق الجزائرية طيلة عقود، وذلك بعد أن غدت المورد الأول للجزائر بمختلف السلع. ولعل هذا ما يعكس قوة العلاقة وعمق الثقة التي يكنها صانع القرار في الجزائر للصين.
ارتفع حجم التبادل التجاري بين الصين والجزائر لأول مرة إلى أكثر من 10 مليارات دولار سنة 2023، حسب ما أكده سفير الصين لدى الجزائر لي جيان في 5 مارس الماضي خلال كلمته أمام المشاركين في المنتدى الاقتصادي الصيني-الجزائري، مشيرا إلى أن الشراكة بين البلدين دخلت مرحلة جديدة، علما أن السوق الجزائرية تعد ثاني أهم سوق بالنسبة للصين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الوقت الراهن.
شركات صينية كبرى لتنفيذ مشاريع جزائرية ضخمة يعود الفضل لشركات صينية في تجسيد مشاريع جزائرية ضخمة، لعل من أبرزها الطريق السيار شرق-غرب، تطوير شبكة السكك الحديدية في الجزائر، مطار الجزائر الدولي الجديد، فضلا عن مسجد الجزائر الأعظم والعديد من الفنادق الكبرى كشيراتون الجزائر ووهران وكذا العديد من الملاعب الرياضية الكبرى في عدة ولايات دون نسيان مئات الآلاف من السكنات.
يتميز الحضور الاقتصادي والاستثماري الصيني في الجزائر بالضخامة، ذلك أن أغلب الشركات الصينية التي تولت هذه المشاريع الكبرى هي شركات عملاقة تابعة للدولة. وربما يدل حضور هذه الشركات على حجم الشراكة الصينية-الجزائرية التي ظلت تتطور بحكم المكانة التي تحظى بها الصين لدى الجزائر، فضلا عن تقيد الشريك الصيني بآجال الإنجاز. من أهم الشركات الكبرى الصينية التابعة للدولة والتي تتولى مشاريع ضخمة في الجزائر، شركتا:
CITIC (China International Trust and Investment Company) CSCEC (China State Construction Engineering Corporation) CRCC (China Railway Construction Corporation)
الجزائر شريك موثوق في المشروع الصيني “الحزام والطريق”
ظلت الصين متمسكة بروابطها وعلاقاتها التقليدية مع الدول العربية عموما والجزائر خصوصا، وهي العلاقات التي تعود تاريخيا إلى “طريق الحرير” التجاري منذ 2000 عام، حيث بنت الصين مبادرتها على أساس التعاون الإنساني ومساعدة الدول معتمدة على مبدئي إحقاق السلام الشامل والتوزيع التنموي العادل للجميع. وقد حققت أشواطا قياسية في هذا المسعى مع بلوغها مكانة عالمية هامة بعد غدوها ثاني قوة اقتصادية في العالم منذ تأسيسها كجمهورية عام 1949.
يتجلى هذا المسعى في مختلف المنتديات والمبادرات الخارجية الداعية إلى العمل الجماعي والتحاور الواعي لكل الفواعل الدولية دون استثناء. وتعتبر مبادرة “الحزام والطريق”، التي اعتمدتها الصين عام 2013، إحدى أكبر هذه المبادرات والمعروفة بمشروع القرن الصيني المستقطب لأكثر من 100 دولة إلى حد الساعة. وهي مبادرة تستهدف الإقلاع الاقتصادي في ميادين النقل والتجارة الدولية، وتطوير البنى التحتية لكل الدول المنضوية تحت لواء المبادرة إلى غاية نهاية 2049، وذلك عبر مشاريع استثمارية كبرى بميزانية مالية ضخمة قدرت حسب تقارير المراكز الخبراتية المختلفة بمليارات الدولارات، بتمويل صيني كامل في كثير من الحالات، عملا بدبلوماسية التعاطف الناعم والمساعدة الإنسانية، مما أكسبها ثقة كبيرة لدى الشركاء العرب بشكل عام والجزائر خاصة.
يرى مختصون أن للجزائر مزايا عديدة تؤهلها لأن تكون طرفا فعالا في الاستراتيجية الصينية المتعلقة بالتنمية، أهمها علاقاتها السياسية المتميزة مع الصين، فضلا عن الثقل الاقتصادي للجزائر واحتياطها الطاقوي، وموقعها الاستراتيجي كنقطة وصل بين إفريقيا وأوروبا والعالم العربي، مما يجعل من الجزائر قاطرة هامة لاستثمارات تصب في خدمة تنمية كل القارة الإفريقية على وجه خاص.
انضمام الجزائر إلى مبادرة “الحزام والطريق” جاء استنادا إلى ثقة الجزائر في أن التعاون وتمتين العلاقة مع الصين في إطار هذه المبادرة سيفتح آفاقا واسعة مع إفريقيا بحكم الموقع الجغرافي الهام للجزائر، هذا الموقع سيجعل منها نقطة انطلاق استراتيجية للتعاون والشراكة مع بقية القارة الإفريقية.
يعتبر ميناء الحمدانية الذي تقوم الصين بمهمة إنجازه وتمويله، أحد أهم ركائز مشروع الصين العالمي “الحزام والطريق”، فهذا الميناء سيمثل رافدا مهما للبلدان الإفريقية التي لا تملك منفذا على البحر.
مستقبل العلاقات الجزائرية-الصينية
وضوح الرؤية وتوفر الاستراتيجية، أمور تحسب للصين في علاقتها مع الجزائر، والتي رسم معالمها الأساسية الرئيس الصيني شي جين بينغ في منتصف سنة 2014، وذلك في الاجتماع الوزاري السادس لمنتدى التعاون الصيني العربي، حيث اقترح التمكين لشراكة صينية عربية ضمن سياق مبادرة “الحزام والطريق”. كما دعا في إطار دعم هذه المبادرة إلى تأسيس نمط للشراكة والتعاون أطلق عليه مخطط (1 + 2 + 3) الذي يجعل من التعاون في مجال الطاقة قاعدة أساسية، كما يجعل من البنية التحتية وتسهيل التجارة والاستثمارات كجناحين، في حين يجعل من المجالات الثلاثة: تقنية الطاقة النووية، والأقمار الصناعية الفضائية، والطاقة الجديدة كنقاط اختراق.
لا يمكن الحديث عن العلاقات الجزائرية-الصينية دون التطرق لمرحلة جائحة كورونا كوفيد-19، الذي كشف عن عمق العلاقة بين الجزائر والصين، حيث لم تتوانَ الأخيرة في تقديم المساعدة للجزائر مما ترك أثرا طيبا لدى الشعب الجزائري وحكومته.
عند الحديث عن مستقبل الشراكة بين البلدين، لا بد من إحصاء مشاريع ضخمة في الأفق تتولى الصين إنجازها، ويعد ميناء الحمدانية شمال الجزائر وعلى الضفة المتوسطية والذي ستتولى إنجازه الشركات الصينية أحد ركائز هذه الشراكة، فهذا الميناء سيمثل رافدا مهما للبلدان الإفريقية بما سيوفره.
ماليا، تتجه الجزائر في السنوات القادمة إلى الاستعانة بالبنوك الصينية لتمويل العديد من مشاريعها الاقتصادية وتلك المتعلقة بتطوير البنية التحتية، وسيساهم هذا التوجه في تخفيف الضغط على الميزانية العمومية للدولة الجزائرية، كما سيساهم ذلك في المحافظة على احتياطها من العملة الصعبة ويفتح باب الاستثمار الأجنبي، سيما الصيني بشكل أعمق وبمشاركة تعمل بصيغة “رابح رابح”.
من جهة أخرى، في ظل مساعي الجزائر الرامية للاستثمار في ميدان الطاقات المتجددة، تراهن على الصين التي لها باع طويل في ميدان الاستثمار في الطاقات المتجددة، بدليل أن استثماراتها تعدت الأربعين مليار دولار في هذا المجال خلال السنوات الأخيرة. كما تعد التنمية المستدامة والاستثمار في المشاريع التي تخدم هذا النمط من التنمية أولوية للصين بامتياز. مع توسع دائرة الانضمام والاهتمام المتواصل بمبادرة “الحزام والطريق”، قررت الصين طرح مبادرة تنموية عالمية ثانية في ظل أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2021 تحت مسمى إدارة التنمية العالمية، داعية من خلالها إلى ضرورة الربط بين مبادرتها وبرنامج التنمية الأممية الثاني للألفية إلى غاية 2030 لتعطي بذلك صيغة الاهتمام الجماعي بالجانب البيئي وحمايته.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
مُخيم رواد الأعمال الشباب بتيبازة قريبًا
ينظم المجلس الأعلى للشباب من خلال لجنة التشغيل والمقاولاتية والابتكار واقتصاد المعرفة، مخي…