مجــدٌ لا يُنسى وتــاريخٌ يُخلّد ملحمة التحرر
تحلّ علينا هذا العام الذكرى السبعون لاندلاع الثورة الجزائرية المجيدة، التي تعد واحدة من أعظم الثورات التحررية في التاريخ المعاصر، إذ جسدت رمزاً للنضال الوطني ورفعت راية الحرية والكرامة عالياً في وجه استعمار استمر لأكثر من قرن وربع. ففي مثل هذا اليوم من عام 1954، انطلقت ثورة التحرير لتغدو رمزاً للأمل والعزيمة، مقدمةً نموذجاً لصمود الشعوب أمام أبشع أنواع الاستبداد والاستعمار.
تشكل هذه الذكرى مناسبة تتجاوز حدود الاحتفال، لتستحضر روح التحدي التي أبدعتها أجيال من الجزائريين الذين رفضوا الاستكانة وواجهوا بصلابةٍ قمع الاستعمار الفرنسي. تلك الثورة التي بدأت بإمكانات متواضعة، لكنها حملت معها تصميم الشعب الجزائري بأسره على استعادة سيادته الوطنية. فقد كانت الثورة الجزائرية أكثر من حركة مقاومة مسلحة، بل مشروعاً وطنياً هدفه التحرر الكامل، وترسيخ الهوية الوطنية والمطالبة بحقوق الإنسان والعدالة.
لم يكن طريق الاستقلال سهلاً؛ فقد واجه الشعب الجزائري آلاماً عظيمة وضحى بالغالي والنفيس في سبيل حريته. وبرغم وحشية الاستعمار الذي مارس أبشع أساليب التعذيب، من قمع وقتل وتشريد وتجويع، لم يضعف عزم الشعب، وواصل كفاحه حتى تحقيق الاستقلال في الخامس من جويلية 1962، بعد نحو ثمانية أعوام من النضال المسلح والسياسي والدبلوماسي.
من مظاهرات الثامن من ماي 1945، التي شهدت مجازر مروعة، إلى الانطلاقة الأولى للثورة في الفاتح من نوفمبر 1954، وما تلاها من معارك تاريخية ومواقف أسطورية كالتحصن في الجبال وتأسيس جيش التحرير الوطني، وسلسلة المعارك الشهيرة كموقعة الجرف ومعارك الأوراس والشمال القسنطيني، كل هذه اللحظات شكلت معالم بارزة في الكفاح من أجل الحرية.
اليوم، ونحن نحتفل بالذكرى السبعين للثورة، تبقى قيمها ورؤاها حيةً في وجدان الشعب الجزائري. فالتحديات التي واجهها الثوار والشجاعة التي أظهروها تبقى دروساً خالدة للأجيال المعاصرة التي تواجه تحديات جديدة تتطلب نفس العزيمة والالتزام. إن إرث الثورة هو درسٌ في النضال من أجل العدالة والوحدة الوطنية، التي شكلت درعاً للشعب الجزائري أمام محاولات تقسيمه وتشتيته.
تتجلى أهمية هذه الذكرى اليوم في الظروف الراهنة التي يشهد فيها العالم تحولات كبرى. فالجزائر، بفضل خبرتها التاريخية ورصيدها النضالي، تواصل العمل على دعم الاستقرار والدفاع عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها.
وإذا كانت الثورة التحريرية قد حققت استقلال الجزائر، فإن الاحتفاء بهذه الذكرى يحمل رسالةً للأجيال الجديدة بمواصلة المشوار لتحقيق استقلالٍ أعمق يشمل جوانب التنمية والاقتصاد والتعليم والتكنولوجيا. فلا يمكن الاكتفاء بأمجاد الماضي دون مواجهة تحديات المستقبل والعمل على بناء دولة قوية، قادرة على المنافسة في الساحة الدولية وحماية الحقوق والحريات.
إن الاحتفال بهذه الذكرى يعبر عن مسؤولية ترسيخ الوعي الوطني ونقل ذاكرة الثورة للأجيال الصاعدة، التي وإن لم تعايش تلك الحقبة، إلا أنها تحمل في عروقها نفس الإرادة الصلبة التي ورثتها عن أجدادها. إن بناء جزائر حديثة، قوية ومستقلة اقتصادياً وثقافياً هو أعظم تكريم يمكن تقديمه للشهداء الذين ضحوا من أجلها.
لم تكن الثورة الجزائرية حدثاً محلياً فحسب، بل شكلت مصدر إلهام لحركات التحرر في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إذ أثبتت أن الإرادة الشعبية قادرة على كسر قيود الاستعمار مهما كانت قوته، وأن صوت الحق أقوى من القمع. هذه الدروس التي قدمتها الجزائر أصبحت جزءاً من الموروث الإنساني في مجال الكفاح من أجل الحرية.
إن إحياء الذكرى السبعين للثورة التحريرية المجيدة لا يُعتبر فقط تذكيراً بتضحيات الأبطال والشهداء، بل تأكيداً على أن الشعب الجزائري سيبقى وفياً لقيم الحرية والعدالة، عازماً على بناء وطن يستحقه. وفي الوقت ذاته، هو عهد للأجيال الصاعدة بمواصلة المسيرة وتحقيق المزيد من الإنجازات على درب النماء والتطور.
اليوم، الجزائر، وهي تستذكر فجر نوفمبر 1954، تؤكد للعالم ولأبنائها في الداخل والخارج أن شعلة الثورة لا تزال مضيئة، وأن إرادة الشعب لا تنكسر، وأن مسيرة البناء مستمرة بما يتوافق مع المبادئ السامية التي قامت عليها الثورة، والتي ستظل عنواناً خالداً يربط ماضي الجزائر بحاضرها ومستقبلها.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …