العبث السياسي الفرنسي!
يثبت البرلمان الفرنسي – أو بالأحرى بعض من نوابه – مرة أخرى، أن ذهنية الاستعمار لم تغادر مقاعد الجمهورية الخامسة، وأن منطق الوصاية لا يزال يطفو على سطح علاقته بالجزائر، رغم عقود من الاستقلال الرسمي، وآلاف الصفحات من المراجعة التاريخية، وملايين الجزائريين الذين لم يعودوا يقبلون أن يُنظَر إليهم كمجرد “مشكلة مغاربية”.
ففي تصويت وُصف بأنه “إنساني”، صوّت أغلب النواب الفرنسيين على قرار يدعو إلى “الإفراج الفوري وغير المشروط” عن بوعلام صنصال، الكاتب الذي أدلى بتصريحات تطعن في وحدة الجزائر الترابية، وتكرّر مقولات استعمارية فقدت مشروعيتها منذ أن دحر شعبنا الاستعمار الفرنسي في ملحمة تحريرية لا تزال حيّة في ذاكرة الأحرار.
ليست المسألة في صنصال بحد ذاته. بل في الرسالة السياسية التي أرادت المؤسسة التشريعية الفرنسية أن تبعث بها: الجزائر يجب أن تُعامَل كدولة ناقصة السيادة، تحاكم فقط بإذن باريس، وتفكر ضمن حدود ما يراه الإليزيه “معقولًا”، وتسامح من يطعن في شرفها ووحدتها لأنهم “مثقفون فرانكوفونيون”. هذه الرسالة، باختصار، مردودة ومرفوضة.
هل نذكّر النواب الفرنسيين أن بلدهم لا يتسامح مع من يشكك في محرقة اليهود أو يمس رموز الدولة أو يعارض بحدة سردية الجمهورية؟ هل نذكّرهم بمئات الاعتقالات التعسفية تحت قانون “الأمن الشامل”؟ هل الجزائر مطالبة بأن تتساهل مع من يطعن في وحدتها الترابية فقط لأن فرنسا لا تتوانى عن دعم المغرب بشكل وقح في قضية الصحراء الغربية؟
الواقع أن هذا القرار البرلماني لا يخدم صنصال نفسه، ولا يخدم العلاقات الثنائية، بل يُظهر بشكل فجّ أن النخبة الفرنسية – من اليمين واليسار – لا تزال غير قادرة على رؤية الجزائر كدولة قائمة بذاتها، بكرامتها وقانونها، وبحقها في معاقبة من يتجاوز حدودها، سواء كان يحمل جنسيتها أو يتقن لغتها.
ما جرى ليس دعوة إنسانية، بل عبث سياسي مفضوح. ووراء القناع “الحقوقي” تتحرك أجندات انتخابية فرنسية داخلية، وأخرى إيديولوجية تريد كسر إرادة الجزائر الجديدة، التي لم تعد تصغي سوى لما يخدم مصالح شعبها، والتي تعرف جيدًا أن الاستقلال لا يُقاس بالأعلام، بل بالقدرة على قول “لا” صريحة مهما علا الصوت الآتي من باريس.
نحن في الجزائر نعرف أن فرنسا الرسمية لم تهضم بعد حقيقة أن أبناء هذا البلد لم يعودوا ينتظرون اعترافها، ولا وساطتها، ولا صكوك غفرانها. نحن نعرف كذلك أن من ينزعج من سيادة الجزائر، هو نفسه من يريد أن تبقى إفريقيا مزرعة خلفية، والمغاربي مجرد تابع.
نقولها بوضوح: الجزائر ليست ولاية فرنسية سابقة، بل دولة ذات سيادة كاملة، تحترم القانون، وتحاسب كل من يمس أمنها ووحدتها. ومن يظن أن التصويت داخل قبة برلمانه سيُرهب قضاءنا أو يُحرج دولتنا، فقد أخطأ البلد، والعصر، والقراءة.
وفي كل الأحوال، السيادة لا تُناقش، بل تُمارس.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …