اغتيال “التحول الرقمي”..!
لم تكن مسابقة التوظيف التي أطلقتها مؤسسة بريد الجزائر، قبل أيام، مجرد اختبار للمرشحين الباحثين عن وظيفة، بل تحوّلت إلى اختبار قاسٍ لقدرة الدولة على تسيير مشاريعها الرقمية باحترافية. عطلٌ تقني حجب المنصة عن آلاف المترشحين، سخطٌ عارم عمّ شبكات التواصل، ووزير يُقيل ثلاثة مسؤولين دفعة واحدة. لكن خلف هذا الانهيار الظاهري، تخفي المنظومة الرقمية الجزائرية ما هو أعمق وأخطر: ما يُعرف بالدين التقني.
الدين التقني، كما يعرّفه المتخصصون، ليس عيبًا في البرمجة بقدر ما هو نتيجة منطقية للتنازلات التي يُقدِم عليها المطورون أو القائمون على المشروع أثناء تطوير الأنظمة، غالبًا بسبب ضغوط الوقت، أو غياب الكفاءة، أو ضعف التخطيط. هو أشبه بـ”قرض زمني”، يتمثل في إهمال الجودة أو المعايير في لحظة استعجال، على أمل السداد لاحقًا، لكن دون إدراك أن الفوائد ستكون باهظة… وربما مدمرة.
وما حدث مع بريد الجزائر، حدث قبله – وربما بشكل أكثر ضراوة – في تجربة الجزائريين مع تطبيق عدل 3. حين أعلنت الوكالة الوطنية لتحسين السكن وتطويره عن رقمنة التسجيلات والطعون والمتابعة، بدا الأمر واعدًا، أخيرًا، سيتمكن المواطن من متابعة ملفه إلكترونيًا، دون طوابير ولا بيروقراطية. لكن سرعان ما تحوّل التطبيق إلى مصدر إحباط جماعي، بعد أن غرق في مشاكل تقنية متكررة.. توقفات مفاجئة، استحالة الوصول إلى الحسابات، رسائل خطأ غامضة، بيانات مفقودة، وتحديثات لا تُجدي. وقد وثّق موقع “الترا جزائر” ردود الفعل الغاضبة للمواطنين، الذين شبّه بعضهم التطبيق بـ”مثلث برمودا الرقمي”، حيث تختفي الملفات ولا تعود، في إشارة إلى حجم الفوضى التقنية.
هذه الأعطال لم تكن نتاج اختراقات خارجية ولا هجمات إلكترونية معقدة، بل نتيجة تراكم الديون التقنية التي لم يتم تسديدها منذ مراحل التصميم الأولى. هل تم احترام معايير الجودة؟ هل خضع الكود لاختبارات كافية؟ هل تم توثيق البنية؟ هل حظي فريق التطوير بالوقت الكافي؟ أسئلة لا تحتاج لإجابات بقدر ما تحتاج لإرادة سياسية لتفادي تكرار ذات الأخطاء.
فالمشكلة لم تعد فنية فحسب، بل باتت تمس ثقة المواطن في الرقمنة ذاتها. فحين يتعطل تطبيق حكومي عند كل مناسبة، وحين لا يستطيع مرشح للوظيفة اجتياز اختبار رقمي، أو لا يتمكن مكتتب في عدل من معرفة مصير ملفه، فإن الإحباط لا يُصيب فقط الأفراد، بل يُصيب مشروعًا وطنيًا بأكمله اسمه “التحول الرقمي”.
الأخطر من ذلك، أن الديْن التقني غير المرئي يكلّف الجزائر، كما باقي الدول، الكثير. فقد كشفت دراسة حديثة لشركة OutSystems أن المؤسسات حول العالم تخسر آلاف اليوروهات كل دقيقة في سبيل الحفاظ على منصات برمجية ضعيفة أو قديمة. كما تُنفق ما يقرب من 30 إلى 40٪ من ميزانياتها التقنية على صيانة أكواد مهترئة، بدل استثمارها في الابتكار.
في الحالة الجزائرية، هذا يعني أن الرقمنة، بدل أن تكون أداة للفعالية والشفافية، قد تتحوّل إلى عبء إضافي إن لم يُعالج ملف الدين التقني بصرامة. وليس المقصود هنا التخلص من كل عيب برمجي، فهذا شبه مستحيل، بل المطلوب هو أن تُدار المشاريع وفق هندسة واضحة، أن يُؤخذ الوقت الكافي في التصميم، أن تُبنى فرق التطوير بكفاءات حقيقية، وأن لا يُختزل التحول الرقمي في شعارات صحفية أو واجهات ملونة.
ليس عيبًا أن تتعطل منصة.. لكن العيب أن تتعطل، ثم تتعطل، ثم تتعطل… دون محاسبة أو مراجعة أو تغيير في منهجية العمل. الدين التقني لا يُلغى بمجرد قرار إداري، بل يُعالَج ببنية تحتية ذكية، وأطر مرجعية مرنة، وثقافة مؤسساتية تعرف أن السرعة لا تعني السباق، بل التقدّم المدروس.
لن تُقاس فعالية الرقمنة الجزائرية بعدد التطبيقات التي تم إطلاقها، بل بعدد المواطنين الذين وجدوا فيها ثقة واستقرارًا ونتائج حقيقية. فإن لم يكن المستخدم هو المستفيد الأول، فإن كل كود كُتب… وكل منصة أُطلقت… تصبح مجرد واجهة مؤقتة لخلل مؤجل.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر
يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …