الجنّ صانع المعجزات التكنولوجية”… عندما تتحول بعض القنوات إلى مصانع خرافة
هبّط بنا قطار الزمن في زمن يفتن فيه البعض بين التكنولوجيا و”التنجيم”، حيث يقف شيخ ملتحٍ على إحدى القنوات الجزائرية الخاصة ليعلن للعالم – بكل ثقة – أن التكنولوجيا الغربية ليست ثمرة أبحاث علمية، ولا نتاج مراكز ابتكار وميزانيات ضخمة، بل هي ببساطة، “اختراع الجن”!
نعم، نفس الجن الذي كان يطارده “الشيخ بلحمر” في الأزقة المظلمة، ويتحدث معه أمام الكاميرا، ويقنع الناس بقدرته على علاجه، الجن الذي لم تحمِه قدراته الخارقة من الموت، ولا أخبره من قرر تصفيته في بيته. ذلك الجن عاد الآن، حسب دعاة “التفاهة المعرفية”، ليصبح مخترع شرائح NVIDIA وIntel ومصمم أنظمة تشغيل Microsoft وحتى مطور معدات Huawei. فهل هي نكتة متأخرة؟ أم أننا أمام موجة شعوذة إعلامية ممنهجة؟
رحل بلحمر، لكن ظله لا يزال يحوم في استوديوهات القنوات الباحثة عن نسب مشاهدة ولو على حساب وعي الناس. وجاء بعده من يكمل المشوار بخطاب أكثر خطورة، مزج الخرافة بالدين، والعلم بالشعوذة. شيخ يرتدي عباءة التدين ليدّعي أن “الجن” مسؤول عن التقدم الغربي، متناسيًا أن الغرب نفسه تخلّى عن مثل هذه الأفكار منذ قرون، وقطع الطريق أمام أي تدخل ديني في الشأن العلمي. أي منطق هذا الذي يحكم على آلاف العلماء في وادي السيليكون بأنهم مجرد وسطاء بين الجن والتكنولوجيا؟ وماذا عن الـ 50 ألف مهندس في مختبر واحد فقط تابع لشركة هواوي الصينية؟ هل هم – على رأي هذا “الشيخ” – مجرد تلاميذ في مدارس الجان الشيوعي؟ هل الحزب الشيوعي الصيني أصبح يتلقى أوامره من كائنات خفية أيضًا؟
إذا كان هذا الشيخ واثقًا من مزاعمه، فليأتِنا بهذا “الجن المبدع”. ليقنعه بالمجيء إلى بلد مسلم يحتاج إلى العلم أكثر من حاجته إلى الخطاب الغيبي. الجزائر بحاجة إلى ابتكار، إلى نهوض صناعي، إلى ذكاء اصطناعي وطاقات نظيفة… إن كان الجن هو الحل، فليكن. لكن فقط، فليأتِ إلينا، ما دام يخدم الغرب. هل يُعقل أن “الجن” يُفضل دول “الكفار” على أرض الإسلام؟ هل لهذا المخلوق معايير انتقائية؟ أم أن الخرافة تعجز حتى عن اتّساقها المنطقي؟
السؤال الجوهري ليس في “الشيخ” أو ادعاءاته، بل في المنصة التي تمنحه الميكروفون. قناة تتغذى على مشاعر البسطاء وتبث أفكارًا تشجع على التواكل، على الإيمان بأن كل ما في الحياة مؤامرة خفية… قناة تشارك دون وعي (أو عن وعي) في عملية تفكيك العقل الجماعي. تسحب الشباب من دروب العلم إلى أنفاق الشعوذة. أين المؤسسات الأكاديمية والعلمية؟ هل نترك الشاشات نهبًا لأفكار كانت أوروبا قد دفنتها في القرن الخامس عشر؟
المعركة اليوم ليست مع “جن” لا يُرى، بل مع جهل يُبثّ على الهواء مباشرة. مع شباب تائه بين البطالة والمخدرات، ثم يلقى في حضن الخرافة لتُستكمل الحلقة الجهنمية. والنتيجة؟ مجتمع عاجز عن بناء مختبر… لكنه قادر على استدعاء “شيخ” يزعم أن الشرائح الإلكترونية هي “عمل جني”. من يُروّج لفكرة أن الجن هو من صنع نهضة أوروبا، لا يسيء للعقل الجزائري فحسب، بل يجرّد كل أمتنا من القدرة على الإبداع. إنها ليست مجرد نكتة تلفزيونية، إنها جريمة في حق الوعي. فهل نواصل الصمت أمام هذا الانحدار؟أم نعيد الاعتبار للعقل، للعلم، ولمنطق التاريخ؟
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…