‫الرئيسية‬ الأولى من يُمسك بمفاتيح الجامعة العربية؟
الأولى - مقالات - 10 يونيو، 2025

من يُمسك بمفاتيح الجامعة العربية؟

من يُمسك بمفاتيح الجامعة العربية؟
لم يكن منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية يومًا مجرد مهمة دبلوماسية شكلية؛ بل لطالما عكس توازنات القوى وصراعات النفوذ في البيت العربي. ومع اقتراب انتهاء عهدة أحمد أبو الغيط، عاد الجدل القديم الجديد حول من يخلفه، ولكن هذه المرّة بصيغة أكثر احتدامًا، إذ يتخذ الصراع أبعادًا ثلاثية بين القاهرة، الرياض، والجزائر، في معركة تبدو كأنها اختبار علني للزعامة الإقليمية وسط واقع عربي مأزوم.

منذ تأسيس الجامعة، كانت مصر الحاضنة الدائمة لقيادتها، واحتفظت بمنصب الأمين العام كعرف غير مكتوب. اليوم، ومع انتهاء عهدة أحمد أبو الغيط الثانية، تجد القاهرة نفسها مضطرة للدفاع عن هذا “الحق التاريخي”. فرغم اقتراح أسماء عدة – من بينها وزير الخارجية الأسبق سامح شكري ثم لاحقًا رئيس الوزراء مصطفى مدبولي ووزير الخارجية الحالي بدر عبد العاطي – واجهت القاهرة تحفظات سعودية واضحة، لا سيّما تجاه سامح شكري، الذي اعتُبر مفرطًا في “التمصير السياسي” للمنصب، وهو ما يتناقض مع رؤية المملكة لمنصب يتطلب “مقاربة جماعية” تراعي المصالح الإقليمية قبل الوطنية.

السعودية، التي وسّعت نفوذها الإقليمي منذ سنوات في ملفات اليمن، ولبنان، والسودان، ترى أن احتكار مصر للمنصب لا يعكس التوازنات الجديدة. وتُعبّر أوساط قريبة من القرار السعودي – عبر منصات إعلامية مقربة – عن رغبة ضمنية في تدويل المنصب عربيًا، بل وطرح احتمال أن تتولاّه شخصية من خارج “الدائرة التقليدية”، ربما من الخليج أو من بلد “محايد دبلوماسيًا”. هذا التوجّه السعودي يجد صداه في بيئة عربية باتت تتسم بالتعددية الاستراتيجية وتآكل المراكز التقليدية للقرار.

الجزائر، التي تعود بثقة إلى واجهة السياسة العربية بعد سنوات من العزلة النسبية، لا تخوض الصراع باسم شخص، بل باسم مشروع إصلاحي أوسع. فلطالما طالبت الجزائر بإعادة هيكلة الجامعة وتطوير آليات اتخاذ القرار فيها، بل سبق أن اقترحت، في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، تعيين نائب جزائري للأمين العام، وكان اسم عبد العزيز بلخادم مطروحًا حينها. غير أنّ غياب آلة إعلامية فعالة، وضعف قدرة الجزائر على تسويق مواقفها خارج البيانات الرسمية، جعلا الرؤية الجزائرية تبدو ضبابية في مقابل الحضور الإعلامي المصري والتموضع السياسي السعودي.

في ظل التجاذبات المحتدمة حول منصب الأمين العام للجامعة العربية، تتقاطع المصالح وتتنافر الرؤى، لكن الصورة الكلية تفرز أمامنا ثلاثة سيناريوهات رئيسية، تختلف في الشكل لكنها تشترك في كونها محاولات لتفادي الانفجار المؤجل.

أول هذه السيناريوهات، التمديد لأحمد أبو الغيط لفترة انتقالية محدودة، كخيار تقني لتجاوز الأزمة دون خوض غمار مواجهة سياسية مباشرة بين العواصم المتنافسة. هذا التمديد، وإن بدا شكليًا، قد يُسهم في كسب مزيد من الوقت لتسوية الخلافات أو تهيئة الظروف لمرشح توافقي.

أما السيناريو الثاني، فيتمثل في ترشيح شخصية توافقية من بلد يُنظر إليه على أنه خارج اصطفافات المحاور التقليدية، مثل موريتانيا أو الأردن. وهو خيار قد يُرضي الأطراف المتنازعة مؤقتًا، ويمنح الجامعة واجهة محايدة، لكنها بلا تأثير فعلي على الملفات الكبرى.

في حين أن السيناريو الثالث، والأكثر سوداوية، يتمثل في تجميد فعلي وغير معلن للمنصب، في حال تعذر التوافق السياسي، وتأجيل الحسم إلى موعد لاحق أو قمة عربية مرتقبة. وهو خيار ينطوي على مخاطر كبيرة، ليس فقط على مستوى صورة الجامعة، بل على صعيد قدرتها على التفاعل مع التحولات الإقليمية، ما يُفاقم من عزلة المؤسسة العربية الأقدم عن قضايا الشارع العربي.

وبين هذه الاحتمالات الثلاث، تبقى الجامعة العربية أمام مفترق طرق، إما أن تُجدد نفسها من الداخل عبر توافق فعلي وإرادة إصلاحية، أو أن تُسقط نفسها في غياهب التهميش والعجز الرمزي.

تأتي هذه المعركة في وقت تتراجع فيه فعالية الجامعة، وتتراكم فيه الملفات غير المحسومة من فلسطين، إلى سوريا، إلى ليبيا، إلى اليمن. ومع موجة التطبيع التي اجتاحت دولاً عربية عدة، بدا جليًا أن الجامعة لم تعد فضاءً للتوافق بقدر ما أصبحت ساحة للشلل السياسي. فقد بات من المشروع التساؤل، هل لا يزال منصب الأمين العام فعّالًا بما يكفي ليُحدث فارقًا؟ أم أن الصراع عليه مجرد انعكاس لفراغ سياسي عربي بات هو الأصل؟

لا يبدو أن معركة الأمانة العامة للجامعة العربية تدور حول الأمانة نفسها، بقدر ما تعبّر عن اختلالات أعمق في بنية النظام العربي المشترك. إنها لحظة صراع نفوذ، وفرصة لإعادة تشكيل التوازنات. وإن لم يُدرك العرب هذا المنعطف بروح إصلاحية، فسيكون التنافس على المناصب مجرّد تقاسم للفراغ.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء

صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…