‫الرئيسية‬ الأولى “بونيولات” الجمهورية
الأولى - الافتتاحية - 11 يونيو، 2025

“بونيولات” الجمهورية

"بونيول" الجمهورية
في زمن تحوّلت فيه المعلومة إلى سلاح، والصوت الإعلامي إلى وظيفة مأجورة، لم يعد مستغربًا أن نرى وجوهًا مألوفة تتوارى خلف شعارات “حرية التعبير” و”المنفى السياسي”، بينما تؤدي دورًا وظيفيًا محسوبًا؛ هدفه الأساسي تشويه صورة الجزائر، والطعن في مؤسساتها، والتقاطع – عن وعي أو عن تبعية – مع أجندات خارجية لا تُخفي عداءها للدولة الوطنية المستقلة.

من محمد سيفاوي إلى عبدو سمار، ومن هشام عبود وأمير ديزاد، وصولًا إلى أنور مالك، محمد العربي زيتوت، وكريم معلوم.. وآخرون، تتشكل أمامنا منظومة إعلامية هجومية، تُصدر خطابًا يبدو في ظاهره “نقديًا”، لكنه في جوهره تكرارٌ لما تروّجه دوائر إعلامية فرنسية يمينية، ومنصات مخزنية مغربية، ومراكز ضغط معروفة بولائها للوبيات صهيونية في أوروبا.

ما يُقدمه هؤلاء لا يُمكن فصله عن السياق الدولي؛ إذ يشتد كلما اتخذت الجزائر موقفًا سياديًا غير منسجم مع الإرادة الغربية، أو أعلنت رفضها للابتزاز الاقتصادي، أو جدّدت تمسكها بالقضية الفلسطينية. عندها، تتحرك هذه “الأدوات الإعلامية”، لا بوصفها أصواتًا مستقلة، بل كأذرع هجومية تدّعي المهنية، وهي تردد سرديات لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تصوغها صحف باريسية أو مخابر استخباراتية مغربية.

يُشكّل محمد سيفاوي النموذج الأكثر انكشافًا في هذا الحقل الرمادي من الإعلام الوظيفي المرتبط بأجندات خارجية. فالرجل، الذي تورّط اسمه في ما عُرف بـ”فضيحة صندوق ماريان” – وهي المبادرة الحكومية الفرنسية التي كُشف لاحقًا أنها موّلت جمعيات ومنصات إعلامية مهمتها استهداف الجاليات المسلمة، وعلى رأسها الجزائرية – لم يعد يخفي عداءه الممنهج للدولة الجزائرية. يستخدم خلفيته الأمنية السابقة ومظهره “التحقيقي” لتمرير خطاب عدائي يُغلّف بالوقائع، لكنه في حقيقته يتقاطع مع سرديات معروفة تنشرها مراكز ضغط يمينية متطرفة في باريس. فهو لا يقدّم صحافة، بل يؤدي وظيفة محسوبة ضمن مشروع أوسع لضرب صورة الجزائر في الوعي الأوروبي.

على المنوال ذاته، يتموضع عبدو سمار، الصحفي السابق، ضمن دائرة “المثيرين الرقميين”، حيث تحوّل من فاعل إعلامي إلى لاعب في صناعة الإثارة السياسية، بالاعتماد على ادعاءات غير موثقة و”تسريبات” انتقائية، غالبًا ما تصب في خانة التأليب على الدولة الجزائرية ومؤسساتها. سمار لا يقدم نقدًا إصلاحيًا نزيهًا، بل يشتغل ضمن منطق الحملات المنظمة، في توقيتات مدروسة، وبخطاب لا يخرج عن قوالب تشويهية باتت مألوفة ومُستهلكة.

أما هشام عبود، المقيم في الخارج، فيمارس دورًا هجوميًا “مقنّعًا”، من خلال فيديوهات متكررة تُبث عبر قناته الخاصة، يعتمد فيها على أسلوب “المعلومة المفخخة”، أي المزج بين معطيات حقيقية مجتزأة وأخرى مختلقة أو مؤولة بطريقة مريبة. يقدم نفسه كـ”عارف بخبايا النظام”، لكنه في الواقع يُعيد إنتاج روايات مشحونة بالحقد والتشكيك، ويُسقط عليها أحكامًا نهائية أقرب إلى الخطاب الانتقامي منها إلى التحليل المهني أو الرؤية الإصلاحية.

وبنبرة أكثر صدامًا، يطل أمير ديزاد، الذي تبنّى خطابًا رقمياً مليئًا بالشتائم والاتهامات العشوائية، موجّهًا جلّ طعنه نحو مؤسسات الدولة والجيش والعدالة، دون تقديم أدلة موثوقة أو وثائق قابلة للتدقيق. ورغم أنه يحظى بمتابعة كبيرة على منصاته، فإن محتواه لا يخرج عن نطاق “التحريض الممنهج”، ويُستخدم كمادة خام في إعلام الخصوم، وخصوصًا منابر النظام المغربي.

أما الثنائي أنور مالك ومحمد العربي زيتوت، فكلاهما يمثل وجهًا آخر للعدمية الخطابية التي تلبس عباءة “الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان”، بينما مضمونها الحقيقي يتقاطع مع مقولات تفكيكية تستهدف الدولة من جذورها. أنور مالك، الذي يقدّم نفسه ككاتب وحقوقي، يوظف لغة حقوق الإنسان لتبرير خطاب سياسي مفرط في التشويه. أما زيتوت، الذي كان ذات يوم دبلوماسيًا، فاختار أن يحوّل تاريخه الشخصي إلى مشروع انتقام دائم، يُبث من الخارج بأدوات داخلها الكثير من الانفعال وقليل من الصدقية.

وفي هذا السياق الإعلامي المشوّش، يبرز اسم كريم معلوم، الذي بات خلال السنوات الأخيرة من الوجوه التي تلعب على وتر الشعبوية الرقمية، من خلال ترويج روايات ذات طابع تبخيسي وتشكيكي، تفتقر للحد الأدنى من التوازن المهني. معلوم لا يقدّم مادة إعلامية مستقلة، بل يعيد بث محتوى يتقاطع مع ما تنتجه منابر إعلامية معروفة بعدائها للجزائر، ويتبنى في تحليلاته سرديات تحاكي – دون مواربة – خطاب المخزن المغربي وامتداداته في الإعلام الأوروبي.

كل هؤلاء، رغم تباين خلفياتهم، يجتمعون على نقطة واحدة: استهداف الجزائر دولةً ومؤسسات وشعبًا، ضمن مشروع إعلامي مشبوه، يُمارَس من الخارج تحت غطاء “حرية التعبير”، بينما هو في جوهره امتداد وظيفي لأجندات خارجية لا تُخفي نواياها تجاه بلد ظل عصيًا على الإخضاع والتدجين.

ما يجمع هؤلاء، إضافة إلى عدائهم العلني، هو تقاطعهم ضمن تحالف غير مُعلن، تتقاطع فيه مصالح اليمين الفرنسي المتطرف، والمخزن المغربي، ومراكز ضغط صهيونية داخل أوروبا. والحملات التي يطلقها هؤلاء تتزامن دائمًا مع تحركات سياسية أو دبلوماسية جزائرية يُراد تشويشها، سواء في ملف الغاز، أو فلسطين، أو علاقات الجزائر الإفريقية.

ليس صدفة أن تتكرر نفس المفردات، “دولة العسكر”، “النظام الفاسد”، “الجزائر المعزولة”، وهي تعابير تتردد في أكثر من منصة، وكأنها نُسخت عن نص مركزي يُوزّع على المساهمين في هذا المشروع الإعلامي – السياسي المشبوه.

ومع ذلك، يبقى الوعي الشعبي هو الحاجز الأول أمام هذا التشويش المنظم. فالشعب الجزائري، الذي خبر التضليل أيام الاستعمار، وواجه الحرب الإعلامية خلال العشرية السوداء، بات اليوم أكثر وعيًا بتمييز الخطاب الوطني الصادق من البروباغندا الخارجية المغلفة بعبارات الحرية.

الجزائري اليوم لا يُخدَع بالأقنعة. يعرف جيدًا من ينتقد بدافع البناء، ومن يهاجم بدافع التفكيك. ويدرك أن استهداف الجزائر، في هذا التوقيت بالذات، لا علاقة له بحقوق الإنسان أو الشفافية أو الحوكمة؛ بل هو ثمن يدفعه بلدٌ يرفض التطبيع، ويصرّ على سيادته، ويرفض الإملاءات، ويتمسك بخياراته التاريخية مهما بلغت الضغوط.

إن الجزائر، بتاريخها النضالي، لا يمكن أن تُختزل في مقاطع فيديو مشبوهة، أو حسابات مغرضة، أو مقالات مسمومة. البلد الذي هزم أعتى استعمار في القرن العشرين، لن تزعزعه حملات مرتزقة من الخارج، ولا تحليلات تُبث من وراء الشاشات، مهما ارتدى أصحابها أقنعة “المنفى” أو “النقد البناء”.

إن الأصوات التي اختارت الاصطفاف مع خصوم الجزائر لن تطفئ صوتها في الداخل. صوت الجزائريين الذين، كلما اشتدت الحملة، ازدادوا إيمانًا ببلدهم، وكلما علا التشويش، ارتفعت لديهم مناعة الوعي. لأن الجزائر، ببساطة، ليست دولة هشّة تُقوّضها التقارير، ولا بلدًا يُطوّع بالتصنيفات. إنها وطنٌ يعرف أبناؤه جيدًا من يقف معهم… ومن يتكلم عليهم


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!

تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…