‫الرئيسية‬ في الواجهة اقتصاد بين خطوط التاريخ وخزائن الغاز… العلاقات الجزائرية-الفرنسية تبحث عن توازن؟!

بين خطوط التاريخ وخزائن الغاز… العلاقات الجزائرية-الفرنسية تبحث عن توازن؟!

العلاقات الجزائرية-الفرنسية
بعد سنة كاملة من التوترات غير المسبوقة، والمتصاعدة بوتيرة لافتة، تدخل العلاقات الجزائرية الفرنسية مرحلة جديدة عنوانها “التريث الحذر”. هذا التغير في المزاج السياسي بين باريس والجزائر لا يعني بالضرورة أن الأمور عادت إلى طبيعتها، لكنه يشير، بكل تأكيد، إلى وجود إرادة – ولو ضمنية – لدى الطرفين لكسر الجمود، واستبدال منطق المواجهة بلغة التهدئة التدريجية.

الأزمة التي اندلعت في 2024، والتي وُصفت حينها بأنها الأعنف منذ الاستقلال، كانت متعددة الأسباب: من تصعيد في ملف الذاكرة الاستعمارية، إلى تضييق في ملفات الهجرة، فتوتر متزايد في التصريحات السياسية من الجانبين. ومع ذلك، فإن الأحداث الأخيرة تؤكد أن الوقت لم يعد مناسبًا للمجابهات، بل للتعامل البراغماتي.

في السياق ذاته، شكّل سحب مشروع القرار البرلماني الذي كان يستهدف اتفاقية الهجرة الموقعة عام 1968 بين الجزائر وفرنسا، نقطة تحول هادئة ولكن جوهرية في شكل العلاقة بين البلدين. المشروع كان من المرتقب عرضه في 26 جوان الجاري من طرف تكتل “اتحاد اليمين من أجل الجمهورية”، بقيادة إريك سيوتي، أحد أبرز وجوه اليمين الفرنسي المتشدد، والحليف الاستراتيجي لحزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف.

ورغم ما تشير إليه التحليلات من أن القرار كان سيمر بسهولة برلمانيًا، فإن سيوتي تراجع في اللحظة الأخيرة عن تقديمه، وهو ما اعتُبر بمثابة “صفقة صامتة” تمّت داخل أروقة الدولة الفرنسية، وتحت ضغط من قصر الإليزيه. صحيفة Le Monde الفرنسية وموقع France Info كشفا أن القرار أُوقف بفعل “تدخل مباشر من جهات عليا”، دون تسميتها، بينما اكتفى لوران سان-مارتين، وزير التجارة الخارجية الفرنسي، بتوجيه “شكر علني” لإريك سيوتي على “حسن التقدير للمصلحة العليا”.

هذا الموقف يعكس – وفق مراقبين – أن الدولة الفرنسية، برئاسة إيمانويل ماكرون، تُدرك أن التصعيد مع الجزائر في الظرف الراهن لا يخدم أولوياتها الإقليمية، خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية الجارية في البحر الأبيض المتوسط، واشتداد التنافس الأوروبي الأمريكي حول النفوذ في شمال إفريقيا.

في المقابل، بدت الجزائر أكثر انفتاحًا على التهدئة من خلال سلسلة من الخطوات الاقتصادية الرمزية ولكن الفعالة. ففي بداية جوان 2025، استقبل الرئيس عبد المجيد تبون رئيس مجموعة CMA CGM الفرنسية العملاقة، رودولف سعادة، بقصر المرادية، في لقاء غير عادي في توقيته، بل ويحمل أكثر من رسالة سياسية. اللقاء تلاه اجتماع رسمي جمع نائبة سعادة، كريستين كابو، بوزير النقل الجزائري سعيد سعيود، ما عكس استمرار الروابط المؤسسية رغم السياقات المتوترة.

وفي منتصف الشهر ذاته، زارت الجزائر بعثة من رجال الأعمال الفرنسيين، ضمت ممثلين عن نحو عشرين شركة من قطاعات مختلفة، بدعوة من غرفة التجارة والصناعة الجزائرية الفرنسية (CCIAF). الحدث كان مناسبة لتأكيد ما صرّح به رئيس الغرفة، ميشال بيساك، حين قال: “ستة آلاف شركة فرنسية تواصل نشاطها في الجزائر دون توقف، وما يجمع البلدين أقوى مما يفرّقهما”. هذه التصريحات، وإن بدت تقنية، إلا أنها تنطوي على دلالات سياسية واضحة: الجزائر لم تُغلق الباب أمام فرنسا، والمصالح الاقتصادية ما تزال تلعب دور “الوسيط الصامت” في اللحظات الحرجة.

كذلك، فوز شركة TotalEnergies الفرنسية بعقد استكشاف نفطي جديد في جنوب الجزائر، ضمن مناقصة طرحتها وكالة “ألنفط”، يشكل مؤشرًا بالغ الأهمية على أن أزمة التصريحات لم تُترجم إلى قطيعة في المصالح. بل على العكس، تعكس استمرار الثقة التقنية والإجرائية في التعاون بين البلدين في واحد من أكثر الملفات حساسية: الطاقة.

في خلفية هذا المشهد، يبرز ملف الكاتب الجزائري بوعلام صنصال، المعتقل منذ نوفمبر 2024، بتهم تعتبرها منظمات حقوقية “فضفاضة”، بينما تعتبرها السلطات الجزائرية مرتبطة بـ”التحريض والتآمر”. الحكم في قضيته يُنتظر في 1 جويلية المقبل، بعد أن أُدين في المرحلة الابتدائية بالسجن خمس سنوات وغرامة مالية قدرها 500 ألف دينار.

تقرير إذاعة RFI الفرنسية أشار إلى أن باريس تتابع الملف بحذر شديد، وترى أن حكم الاستئناف سيكون مؤشرًا على مدى استعداد الجزائر لتخفيف التوتر، أو – في حال العكس – مؤشراً على بقاء الملفات الحقوقية كمصدر تفجير مستمر. كل هذه المؤشرات تقود إلى نتيجة واحدة، العلاقات الجزائرية الفرنسية لم تعد في مرحلة المواجهة المباشرة، بل انتقلت إلى مربع “إدارة الخلافات دون كسر الروابط الاستراتيجية”.

ففي باريس، تراجعت وتيرة التصريحات العدائية من معسكر اليمين المتطرف، وعلى رأسهم برونو ريتايو، الذي لم يعد يهاجم الجزائر كما كان يفعل خلال الأشهر السابقة. كما اختفت اللهجة التصعيدية من وزراء الحكومة الفرنسية، الذين أصبحوا أكثر حذرًا في التعاطي مع الملف الجزائري. وفي الجزائر، تخلّى الإعلام الرسمي وشبه الرسمي عن نبرة “الخصومة التاريخية”، وركّز أكثر على الملفات الاقتصادية، ومتابعة التطورات القضائية المتعلقة ببعض القضايا ذات البعد الحساس، دون توظيف سياسي مباشر ضد فرنسا.

لا يمكن الجزم بذلك، ولكن ما هو مؤكد أن الطرفين وصلا إلى قناعة استراتيجية بأن القطيعة الكاملة غير ممكنة ولا مجدية. الجزائر تبقى لاعبًا محوريًا في المعادلة المتوسطية، وملف الهجرة، والطاقة، والتعاون الأمني، يجعل منها شريكًا لا يمكن تجاوزه بالنسبة لفرنسا وأوروبا.

من جهة أخرى، فرنسا – رغم تراجع نفوذها في الساحل الإفريقي – ما تزال تحتفظ بثقل اقتصادي، ثقافي، واستخباراتي داخل المشهد الجزائري، وهو ما يجعل من منطق “التفكيك الكامل للعلاقة” خيارًا غير واقعي.

العلاقات الجزائرية الفرنسية تمر الآن بما يمكن وصفه بـ”مرحلة إعادة ضبط”. فالأزمة كانت عميقة، لكنها لم تفضِ إلى انهيار كامل. وبين تجاذبات الذاكرة، وملفات الهجرة، والمصالح الاقتصادية، تحاول كل من باريس والجزائر ترميم الجسور دون ضجيج، وبأدوات سياسية ناعمة وصامتة.

المرحلة المقبلة ستُحدَّد على ضوء تطورات ملفات حساسة، مثل استمرارية المشاريع الاقتصادية الكبرى. أما “المصالحة الكبرى”، فهي رهن الإرادة السياسية، وفهم متبادل بأن العلاقات بين البلدين لا تحتمل رفاهية الكسر، بل تتطلب حكمة الترميم.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …