الأمير تركي الفيصل يكشف ازدواجية المعايير الأمريكية..
خرج الأمير تركي الفيصل، الرئيس الأسبق للمخابرات العامة السعودية وأحد أبرز الأصوات الاعتدالية والمسموعة في الغرب، بتصريحات حادة حمّلت الولايات المتحدة وإسرائيل مسؤولية تعميق الفوضى والاضطراب في الشرق الأوسط. وبنبرة غاضبة ولكن محسوبة، انتقد الأمير ما وصفه بـ”ازدواجية المعايير الغربية”، متسائلاً: “لماذا تُقصف المنشآت النووية الإيرانية بينما يُترك مفاعل ديمونة الإسرائيلي خارج دائرة الحساب؟”.
هذا التساؤل، الذي يبدو بسيطاً في ظاهره، يفضح بنية كاملة من السياسات الغربية التي يتهمها الأمير بأنها تتعامل مع الأمن الإقليمي من منظور مصلحي ضيق، يُحصّن إسرائيل من أي رقابة دولية، ويفرض في المقابل عقوبات وتهديدات على دول أخرى، تحت ذرائع لم تعد تقنع الرأي العام العربي ولا حتى الغربي.
الانتقاد الأبرز في تصريحات الأمير الفيصل كان موجهاً لمفاعل “ديمونة”، الذي يُعد القلب السري لبرنامج إسرائيل النووي. إسرائيل، التي لم تنضم يوماً لمعاهدة حظر الانتشار النووي (NPT)، تواصل إنتاج وتخزين رؤوس نووية دون حسيب أو رقيب، في ظل صمت أمريكي وغربي مطبق. وبحسب تقديرات “معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” (SIPRI)، فإن إسرائيل تمتلك ما بين 80 و200 رأس نووي، وهي من بين أربع دول فقط لم تنضم للمعاهدة الدولية، إلى جانب الهند وباكستان وكوريا الشمالية.
الفيصل لم يخفِ استياءه من هذا التمييز الصارخ. “ما الذي يجعل من إيران، مهما كانت خلافاتنا معها، هدفاً مباحاً، بينما تُعامل إسرائيل كأنها فوق القانون؟”، تساءل الأمير، مشيراً إلى أن السعودية لطالما التزمت بمبدأ احترام القانون الدولي، ولا تقبل أن تتحول المنطقة إلى حقل تجارب لقنابل نووية غير مراقبة.
حملة إسرائيلية مشبوهة… وصور تطبيع مفبركة
تصريحات الأمير تركي لم تأتِ من فراغ، بل جاءت رداً مباشراً على حملة إعلامية إسرائيلية نشرت صوراً مفبركة ومُسرّبة لقادة عرب، من بينهم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في محاولة لإيصال رسالة مفادها أن قطار التطبيع قد شمل الجميع. وقد رأت السعودية في هذه الحملة محاولة ابتزاز سياسي مرفوضة تماماً، خاصة أنها جاءت في وقت تعاني فيه المنطقة من توتر اقتصادي وأمني بالغ.
الأمير تركي أشار إلى أن نشر هذه الصور هو جزء من سياسة “فرض الأمر الواقع” التي تنتهجها حكومة نتنياهو، مضيفاً أن السعودية لن تنجرّ وراء الضغوط الإعلامية أو السياسية، وأن ملف التطبيع ليس ورقة يمكن اللعب بها في أوقات الأزمات، بل هو قرار استراتيجي خاضع لمعادلات دقيقة ترتبط بمصير الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية.
سموتريتش يطالب الخليج بتمويل حرب إسرائيل… ورد صارم من الرياض التصريحات الإسرائيلية لم تتوقف عند حدود الابتزاز الرمزي، بل تجاوزتها إلى مطالبات صريحة بدفع ثمن الحروب. فقد خرج وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، بتصريح قال فيه إن “على دول الخليج تحمّل تكلفة الحرب الإسرائيلية ضد إيران، لأنها تدافع عن مصالحهم أيضاً”. وقد اعتبر الأمير تركي هذا الكلام “وقاحة سياسية غير مسبوقة”، مؤكداً أن السعودية ترفض تماماً أن تتحوّل إلى بنك مفتوح لتمويل الحروب التي لا قرار لها فيها.
وأضاف: “نحن لا نقبل أن نُستخدم درعاً ولا ممولاً لحروب الآخرين، خصوصاً عندما تكون تلك الحروب تهدد أمننا ولا تخدم استقرار المنطقة”. واعتبر أن هذا الخطاب الإسرائيلي يعكس عقلية استعمارية جديدة، ترى في المال الخليجي مورداً جاهزاً دون مقابل.
في العمق، تحمل تصريحات الأمير تركي الفيصل رسالة سياسية مزدوجة. من جهة، هي تحذير صريح للولايات المتحدة من استمرار دعمها غير المشروط لإسرائيل، حتى على حساب القانون الدولي والمصالح العربية. ومن جهة أخرى، هي إشارة واضحة إلى أن السعودية لن تقبل بأن تُستبعد من دوائر التأثير في رسم مستقبل الشرق الأوسط.
الأمير تركي لمح بشكل غير مباشر إلى “المخطط الثلاثي” الذي يقوده الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو مخطط – بحسب تعبيره – يسعى لتحييد السعودية من التأثير السياسي الحقيقي، وإبقائها في موقع المموّل فقط. “لسنا دولة وظيفية”، قال الأمير، في جملة تعكس رفضاً قاطعاً لتحوّل السعودية إلى كيان تابع لقرارات لا تُستشار فيها ولا تملك حق الفيتو عليها.
لم يكن الموقف التركي بمنأى عن نقد الأمير تركي، إذ تحدث عن الدور التركي في الملف السوري، مُشيراً إلى أن أنقرة تُمارس أدواراً استخباراتية تُسهم في تسريع عملية التطبيع مع إسرائيل، حتى عبر أطراف سورية معارضة أو محسوبة على تيارات إسلامية. وأشار إلى حكومة أحمد الشرع، التي وصفها بـ”الملتحية”، مؤكداً أن تسارعها نحو التطبيع يعكس طبيعة “المتأسلمين” الذين يتخلون عن المبادئ فور بلوغهم السلطة.
في هذا السياق، يرى الأمير أن الدور التركي في سوريا لم يكن يوماً بريئاً، وأن أنقرة تسعى لفرض ترتيبات سياسية تُقصي فيها الدول العربية الكبرى، وتُمهّد لتحالفات جديدة تُنهي النفوذ التقليدي السعودي والمصري في الملف السوري.
إسرائيل… الخطر الأكبر على الأمن الإقليمي والدولي
لعل الرسالة الأوضح في تصريح الأمير تركي الفيصل هي التأكيد على أن إسرائيل، كما هي الآن، تشكل خطراً لا يمكن تجاهله على الأمنين الإقليمي والدولي. دولة تمتلك السلاح النووي خارج القانون، تمارس سياسات عدوانية، وتُصر على التوسع الاستيطاني، لا يمكن أن تكون شريكاً موثوقاً في أي عملية سلام. كما أن محاولات فرضها كوصيّ على المنطقة أو قوة مهيمنة يجب أن تُواجَه بموقف عربي موحد، يعيد الاعتبار للقانون الدولي ويضع المصالح العربية في المقدمة.
ليست هذه المرة الأولى التي ينتقد فيها الأمير تركي الفيصل السياسة الأمريكية، لكنها المرة الأولى التي يكون فيها التصريح بهذا الوضوح، وفي ظل هذا التوتر الإقليمي المتصاعد. السعودية، كما يبدو، بدأت تعيد تقييم موقعها في معادلات القوة، وتُدرك أن التمويل دون تأثير لم يعد مقبولاً. قد لا تُغير هذه التصريحات الموقف الأمريكي أو الإسرائيلي فوراً، لكنها بالتأكيد تُعبّر عن مزاج سعودي جديد، أكثر حزماً، وأكثر استعداداً للدفاع عن سيادته واستقلالية قراره. فهل تكون هذه بداية لمواقف رسمية أكثر صرامة؟ وهل تعيد السعودية تموضعها الإقليمي في مواجهة تحالفات تبدو موجهة ضدها؟ الأيام القادمة كفيلة بالإجابة.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…