‫الرئيسية‬ الأولى افضحوا الخرائط… قبل أن تشتعل الحدود!
الأولى - الافتتاحية - الوطني - 6 يوليو، 2025

افضحوا الخرائط… قبل أن تشتعل الحدود!

افضحوا الخرائط… قبل أن تشتعل الحدود!
في خضمّ النزاع المحتدم حول الصحراء الغربية، تبرز معالم خطاب توسعي متجذّر في الثقافة السياسية للمخزن المغربي، لم يعد مجرد تحليل خصوم، بل حقيقة موثقة من داخل دهاليز الدبلوماسية الغربية.

تصريح جون بولتون – مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق – عن رؤيته خريطة مغربية تضم أراضيَ من الجزائر وموريتانيا خلال زيارته للقصر الملكي عام 1997، يعيد إلى الواجهة سؤالًا خطيرًا، هل نحن أمام نسخة حديثة من الاستعمار تُدار من خلف الجدران؟ وهل المشروع المغربي يتجاوز الصحراء إلى إعادة تشكيل الخارطة المغاربية بأكملها؟

لم تكن الشهادة التي أدلى بها بولتون في مقابلته المطولة مع صحيفة El Independiente الإسبانية، بشأن زيارته لمكتب الملك المغربي الراحل الحسن الثاني مجرد تفصيل بروتوكولي في محضر دبلوماسي عابر. بل كانت وثيقة رمزية، كشفت عن جانب بالغ الخطورة في هندسة الوعي الجغرافي والسياسي للنظام المغربي، الذي لا يزال – كما يبدو – يعيش أسير خرائط «ما قبل الاستقلال»، ويتغذى على أوهام “الامتداد الطبيعي” لما يسميه البعض بـ”المغرب التاريخي”.

بولتون، بصفته شاهدًا من داخل منظومة القرار الأمريكي، تحدث بوضوح عن خريطة معلقة على جدار مكتب ملك المغرب، تضم ليس فقط الصحراء الغربية، بل أيضًا أجزاء من الجزائر وشمال موريتانيا. ما يصفه بولتون ليس زلّة بروتوكولية، بل تصور جغرافي سياسي قائم على فكرة التوسع الإقليمي الرمزي والفعلي.

هذه الخرائط – التي لا تُنشر رسميًا، لكنها تُعلّق في المكاتب الملكية وتُدرّس ضمنيًا في بعض المناهج – ليست سوى تجديد لمنطق استعماري قديم. الاستعمار، الذي فرض خرائطه بالقوة في القرن التاسع عشر، يعود في القرن الحادي والعشرين عبر أدوات سياسية ودبلوماسية وإعلامية مغربية، تؤسس لواقع إقليمي يُعاد تشكيله تدريجيًا تحت مسمى “استرجاع أراضٍ تاريخية”.

المغرب، الذي لم يطلق رصاصة واحدة في سبيل استقلاله من الاستعمار الفرنسي أو الإسباني، لم يتصالح يومًا مع حدوده كما رسمها الواقع ما بعد الاستقلال. فمنذ بداية الستينيات، لم تكد تمرّ سنة على استقلال الجزائر حتى حاول فرض تصوراته الجغرافية بالقوة عبر ما عُرف بـ”حرب الرمال” سنة 1963، في محاولة لضم أراضٍ جزائرية حدودية، رغم أن الجزائر كانت لا تزال تنهض من جراح استعمار دامٍ استمر أكثر من 130 سنة. منذ تلك اللحظة، لم تتوقف المخيلة السياسية المخزنية عن التلويح بخريطة “المغرب الكبير”، ولا عن تغذية سرديات “استرجاع” امتدادات جغرافية مفترضة، تمتد جنوبًا نحو موريتانيا، وشرقًا نحو عمق الصحراء الجزائرية. إنها رؤية جغرافية مبنية على أحلام توسعية، لا على وقائع سياسية أو قانون دولي.

الخطير في هذه النزعة أنها لا تعترف بقداسة الحدود، ولا تلتزم بمواثيق حسن الجوار، بل تُقدَّم على أنها “تصحيح لظلم تاريخي”. وهو الخطاب ذاته الذي برّر به الاستعمار الأوروبي احتلاله لأراضي الآخرين. لكن الفرق هنا أن المخزن المغربي يتبنى خطابًا مزدوجًا، يُظهر أمام العالم نوايا حسنة حول التعاون والوحدة المغاربية، بينما تُظهر ممارساته العكس تمامًا.

فهو يسعى لتكريس تفوق جغرافي وسياسي، مدعوم بتحالفات دولية جديدة، خصوصًا مع الولايات المتحدة في عهد ترامب، ومع إسرائيل بعد اتفاقات أبراهام. وهذه التحالفات لا تُستخدم فقط لأهداف اقتصادية أو أمنية، بل لتثبيت واقع جغرافي جديد في الصحراء، ثم التمدد بهدوء نحو طموحات أبعد.

ما يفعله المخزن هو استثمار الفراغ الاستراتيجي الذي خلّفه تراجع التأثير الفرنسي والإسباني في شمال إفريقيا. فبينما تنكفئ باريس على أزماتها، وتغرق مدريد في حسابات داخلية، تتحرك الرباط على وقع مشروع توسعي مرسوم بدقة، تدعمه رمزيًا تلك الخريطة المعلقة التي تحدث عنها بولتون.

لا يتعلق الأمر فقط بالصحراء الغربية، بل بمنهجية تسعى إلى إعادة تشكيل الجغرافيا المغاربية، ليس بالحرب، بل بالدبلوماسية الزاحفة، والتطبيع السياسي، والشرعنة التدريجية عبر المؤسسات الدولية المتواطئة أو المترددة.

النزعة التوسعية للمخزن المغربي لا تهدد فقط الدول المجاورة، بل تضرب صميم فكرة القانون الدولي ذاته، احترام الحدود الوطنية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم المساس بالسيادة. وحين تُترك هذه النزعة دون مساءلة، وتجد صمتًا دوليًا أو دعمًا ضمنيًا، فإنها تتضخم وتتمدد، تمامًا كما تفعل السرطانات السياسية في مناطق النزاع.

ما قاله بولتون ليس قصة من الماضي، بل تحذير من المستقبل. فالاستعمار، حين يُعيد ارتداء عباءته، لا يعود بالجنود فقط، بل بالخريطة، والخطاب، والتحالفات. وإذا لم تُسقطه الشعوب مرّة أخرى، فإنه سيعود، كما عاد من قبل، عبر المكاتب… لا المعارك.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …