إعلام بلا تمويل… وطن بلا صوت
منذ الإصلاح الذي عرفه قطاع الإعلام الجزائري في التسعينيات، وبدعم وإيعاز من المرحوم الرئيس الشاذلي بن جديد، لم يشهد القطاع إصلاحًا آخر، بل لم يُثمَّن حتى الإصلاح السابق، الذي كان الهدف منه خلق إعلام مستقل يساهم في بناء التجربة الديمقراطية في الجزائر وتعميقها.
فور تأسيس الصحف المستقلة، وشركات الإنتاج السمعي البصري، ثم المواقع الإلكترونية، وجدت جميع هذه الوسائل الإعلامية نفسها أمام معضلة اقتصادية حقيقية، تمثلت في مسألة التمويل. ومن الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى الإشهار، باعتباره الوسيلة الوحيدة القادرة على إبقاء أي وسيلة إعلامية – سواء كانت ورقية أو إلكترونية أو سمعية بصرية – على قيد الحياة، من خلال تمكينها من دفع مستحقات الصحفيين ومختلف العمال.
العلاقة بين الإعلام والإشهار تُشبه شريان الحياة، وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالطابع الاقتصادي العام للبلاد، فضلًا عن طبيعة المجتمع الذي يعاني من ضعف في نسب القراءة، شأنه شأن العديد من المجتمعات النامية. لذلك، فإن مجرد بيع الصحف لا يضمن الحد الأدنى من المداخيل اللازمة لاستمرارها.
السؤال المطروح اليوم – والذي طرحه أيضًا وزير الاتصال الدكتور محمد مزيان – هو: ما هو حال الإعلام الوطني؟ وهل هو قادر حاليًا على تشكيل درع وطني لحماية البلاد من الاعتداءات المتكررة والمعقدة؟ من الواضح أن الإعلام في وضعه الراهن غير قادر على الارتقاء إلى هذا المستوى، ما يستدعي ضرورة جلوس جميع الأطراف – السلطة والإعلام – إلى طاولة حوار، أولًا لتقييم الإصلاح السابق الذي أطلقه الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وثانيًا لوضع أسس إصلاح جديد يبني إعلام المستقبل كما يتمناه الجميع، من الرئيس تبون إلى وزير الاتصال، إلى كل الفاعلين في القطاع.
تبرر الحاجة إلى الإصلاح الجديد عدة عوامل، من أبرزها التطور التكنولوجي الهائل الذي شهده القطاع، والذي جعله أكثر تعقيدًا وتنوعًا، وبالتالي أصبح يتطلب مؤهلات وخبرات جديدة للتأقلم معه. كما أن هذا التطور فرض على البلاد تحديات المواجهة اليومية، بل اللحظية، للاعتداءات التي تتعرض لها من وسائل إعلام معادية، تداخل فيها العمل الإعلامي التقليدي مع العمل المخابراتي والدعائي الموجَّه، فيما يعرف لدى المختصين بحروب الجيل الجديد.
تصريحات وزير الاتصال الدكتور محمد مزيان، والتساؤلات التي يطرحها، لا يمكن فهمها إلا في إطار البحث عن إصلاح جديد وشامل لقطاع الإعلام بكل تنوعاته. وكما يعلم الجميع، لا يمكن خوض غمار إصلاح جديد دون تقييم دقيق وشامل لنتائج الإصلاح السابق في التسعينيات، من جميع الجوانب، الإيجابية منها والسلبية، سواء في علاقته بالسلطة – التي شهدت في فترات معينة قطيعة بينها وبين الإعلام – أو في علاقته بالمجتمع ومدى تأثيره فيه، دون إغفال البعد الدولي، ومدى حضور الإعلام الجزائري على الساحة الخارجية. من الضروري التدقيق في الأخطاء، سواء ارتُكبت من قبل السلطة أو من داخل القطاع الإعلامي نفسه، لبناء إصلاح مستدام يخدم الوطن.
في هذا السياق، لا ينبغي التغاضي عن نقطة جوهرية، وهي التمويل، الذي يُعد عصب العملية الإعلامية برمّتها. فالمطلوب هو وضع قواعد موضوعية وواضحة للتمويل، تُمكّن من إخراج الإعلام من دائرة الضغوط، سواء كانت تلك الضغوط ناتجة عن أفراد، أو مجموعات، أو حتى مؤسسات. كما أن الطريقة غير العادلة في توزيع الإشهار سابقًا، والتي لم تكن تخضع لأي محاسبة على النتائج، يجب أن تُطوى، وفتح صفحة جديدة تتسم بالشفافية، والإنصاف، وتكافؤ الفرص.
بالموازاة، ينبغي على وسائل الإعلام أن تضمن كرامة الصحفيين ومختلف العمال، من خلال احترام حقوقهم الاجتماعية والمهنية، وتوفير بيئة عمل تحفظ كرامتهم، وتُعزز من قدرتهم على الإنتاج والاستقلالية.
النية التي عبّر عنها وزير الاتصال الدكتور محمد مزيان من خلال تصريحاته المختلفة تُوحي بوجود توجه نحو إطلاق عملية إصلاح شاملة، تهدف إلى تأسيس درع إعلامي وطني قادر على حمل رؤية الجزائر إلى الخارج، ومواجهة الأكاذيب والحملات الإعلامية التي تستهدفها، بكل احترافية ومهنية.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…