تحذير من “أفغنة” الشواطئ : المد الوهابي يهدد الحريات العامة بالجزائر
كلما حلّ فصل الصيف في الجزائر، يعود الخطاب المتشدد ليُطل برأسه عبر فتاوى ودعوات تحريمية تستهدف نمط الحياة اليومية للمواطنين، لا سيما في الفضاءات العامة كالشواطئ. فتاوى تبدأ بتحريم السباحة ولباس البحر، وتمر بمهاجمة المرأة وتحركاتها، ولا تنتهي بتحريم الأعراس والموسيقى، بل تتوسع لتطال الرجال أنفسهم تحت غطاء “الستر” و”الحياء”، في محاولات مستمرة لـ “أفغنة” المجتمع وتقييد الحريات.
هذا الصيف شهد تصعيدًا لافتًا، حيث لم تتوقف هذه الحملات عند فتاوى التكفير والتحريم فقط، بل تطورت إلى تدخلات فعلية في الحياة العامة، طالت مواطنين بسبب لباسهم. شباب يرتدون “الشورت” على الشواطئ وفي الأماكن العامة، وجدوا أنفسهم عرضة للملاحقة من طرف أفراد من الشرطة والدرك، رغم عدم وجود أي سند قانوني يمنعهم من ذلك. هذه الممارسات، التي تُبرر ضمنيًا بخطاب ديني متشدد، تُعد مؤشرًا مقلقًا على اختراق بعض الأجهزة أو تأثرها بخطاب لا يمثل مؤسسات الدولة ولا مرجعيتها الدينية الوطنية.
المسألة لم تعد تقتصر على فتاوى متفرقة هنا وهناك، بل أصبحت حالة منظمة من الخطاب التحريمي الممنهج، تتغذى من منابع الفكر الوهابي والسلفي المتشدد، الذي تم تهميشه وطرده حتى من مراكز انتشاره التقليدية، كما حدث في المملكة العربية السعودية التي ألغت جهاز “الحسبة” – أو ما يُعرف بشرطة الأخلاق – وفصلت الدين عن حياة الناس اليومية. الغريب أن ذات الفكر المطرود من الرياض، يسعى اليوم لبسط نفوذه على المجتمع الجزائري، مستغلًا هشاشة الخطاب الديني المحلي وضعف أداء المؤسسات المعنية بضبط المجال الدعوي والفتاوى.
تأتي هذه الحملات في وقت تعيش فيه الجزائر ديناميكية جديدة من الانفتاح، ومحاولات حثيثة لتنشيط السياحة وجذب الاستثمار، لكن هذا الواقع يُهدده تصاعد الخطاب المتشدد، الذي يتسبب في طرد السياح المحليين والأجانب على حد سواء. إذ بدأنا نلاحظ تراجعًا في ارتياد الشواطئ، وهجرة عائلات جزائرية إلى وجهات سياحية أكثر انفتاحًا، مثل تونس، بل وحتى السعودية نفسها التي باتت أكثر تسامحًا مع المظاهر الشخصية مما يحدث على بعض الشواطئ الجزائرية.
فتاوى تحريم الموسيقى، والأعراس، والحمّامات التقليدية، وشتم المرأة في الشوارع سواء كانت محجبة أو لا، تزايدت بوتيرة خطيرة. الأمر وصل حد التشكيك في رجولة الرجل الذي يسمح لأخته أو زوجته بالسباحة، واتهامه بالخروج عن الدين، في تجاوز صارخ لحرية الأفراد وحقهم في الحياة الطبيعية. هذه الموجة ليست معزولة، بل تتغذى من خطابات الكراهية، ومن دعم سياسي ضمني توفره بعض أحزاب “الإخوان المسلمين” التي تعمل على تمكين الفكر السلفي الوهابي تحت عباءة العمل السياسي المشروع.
الأخطر أن هذه الحملات تكرّر نفس المؤشرات التي سبقت العشرية السوداء: تجريم المجتمع، شيطنة المرأة، تحريم الفرح، والتضييق على الحريات الفردية والعامة، ما يطرح تساؤلات جدّية حول أهداف هذه الموجة وتوقيتها، خصوصًا مع قرب تحوّلات جيوسياسية واقتصادية كبيرة في المنطقة.
الفتوى أصبحت سلاحًا بيد كل من هبّ ودبّ، والمؤسسات المعنية، خاصة وزارة الشؤون الدينية، باتت غائبة أو غير فاعلة، ما فتح المجال لخطابات لا تخضع لأي رقابة، بل وتؤثر على رجال أمن يفترض بهم تطبيق قوانين الجمهورية لا الالتزام بإملاءات متشددين طُردوا من أوطانهم الأصلية.
المجال العام في كل الدول هو مساحة مشتركة تخضع للقانون لا للأهواء الدينية أو الأيديولوجية. ومهمة الدولة – بكل مؤسساتها – هي الحفاظ على هذه المساحة وحمايتها من أي خطاب فوضوي أو استعلائي ديني يُحوّل المواطن إلى متّهم في ملبسه، أو معتدٍ على الأخلاق بمجرد ذهابه إلى البحر مع عائلته.
إن تمدد هذا الخطاب لا يهدد فقط الحريات، بل يشكل خطرًا حقيقيًا على الأمن الوطني، حين تتحول الفتاوى إلى أدوات ضغط وتجنيد وتعبئة إيديولوجية، تستهدف زعزعة تماسك المجتمع، وإعادة إنتاج دوامة التطرف باسم “الدين”.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…