‫الرئيسية‬ في الواجهة اقتصاد التضخم يزدهر… القدرة الشرائية تحتضر
اقتصاد - الأولى - مال واعمال - 12 يوليو، 2025

التضخم يزدهر… القدرة الشرائية تحتضر

التضخم يزدهر… القدرة الشرائية تحتضر
شهدت الجزائر خلال الفترة الممتدة من سنة 2001 إلى سنة 2024 مسارًا تضخميًا متصاعدًا، حيث كشف الديوان الوطني للإحصائيات أن المستوى العام للأسعار قد تضاعف بما يقارب 2,8 مرة خلال هذه المدة. هذا الرقم لا يعكس فقط تطورًا كميًا في المؤشرات الاقتصادية، بل يسلّط الضوء على التحولات العميقة التي مستّ نمط عيش المواطن الجزائري، وأثّرت بشكل مباشر في قدرته الشرائية، خاصة في ظل غياب آليات فعالة لضبط السوق ومواجهة المضاربة. ورغم أن سنة 2024 سجّلت نوعًا من التراجع النسبي في وتيرة التضخم مقارنة بالسنوات الثلاث السابقة، إلا أن الوضع لا يزال هشًّا، ويعكس اقتصادًا يعاني من اختلالات هيكلية مزمنة.

خلال السنوات الثلاث الأخيرة، أي من 2021 إلى 2023، عرف التضخم في الجزائر مستويات مرتفعة، حيث بلغت نسبة الزيادة السنوية في الأسعار 7,2% سنة 2021، لتصعد إلى 9,3% في سنتي 2022 و2023 على التوالي. هذه المعدلات المرتفعة أدت إلى اختلال واضح في التوازن بين الدخل والأسعار، خصوصًا بالنسبة للطبقات المتوسطة والضعيفة. غير أن سنة 2024 عرفت انخفاضًا ملحوظًا في وتيرة التضخم، إذ تراجعت نسبة الزيادة إلى 4,1%، وهو ما اعتُبر مؤشرًا إيجابيًا، لكنه لا يُخفي حجم التراكم التضخمي الذي عرفته البلاد منذ مطلع الألفية.

التحسن الظاهر في مؤشرات سنة 2024 شمل بشكل رئيسي أسعار المواد الغذائية، والتي تُعد أكثر تأثيرًا على ميزانية الأسر الجزائرية، حيث انخفض معدل الزيادة فيها من 13,3% سنة 2023 إلى 3,3% فقط في 2024. ويُعزى هذا التراجع إلى الانخفاض الحاد الذي سجلته أسعار عدد من المنتجات الفلاحية الطازجة، على غرار الفواكه التي انتقل معدل تغير أسعارها من +31,6% إلى -19,2%، والخضر التي تحولت من +15,8% إلى -4,7%، والبيض الذي عرف تراجعًا من +21,7% إلى -17,3%. كما أن هذه الانخفاضات المفاجئة جاءت بعد موجات ارتفاع متواصلة، ما يعكس هشاشة السوق وخضوعه لتقلبات موسمية وهيكلية في آن معًا، دون أن تكون هناك آلية فعالة لضبط الأسعار أو حماية المستهلك.

أما السلع المصنعة والخدمات، فقد سجلت بدورها تراجعًا في وتيرة التضخم، حيث انخفضت أسعار السلع المصنعة من 6,9% إلى 5,6%، في حين تراجعت أسعار الخدمات من 3,8% إلى 2,5%. رغم ذلك، فإن هذه المعدلات لا تزال تعكس ضغوطًا متواصلة على كاهل المواطن، خاصة في ظل محدودية الأجور وثباتها نسبيًا مقارنة بوتيرة ارتفاع الأسعار. ومنذ سنة 2001، تُظهر البيانات أن أسعار المواد الغذائية تضاعفت 3,1 مرة، في حين تضاعفت أسعار الخدمات بمعدل 2,4 مرة، وهي أرقام تكشف عن واقع مرير يعاني فيه المواطن من تآكل القوة الشرائية أمام ارتفاع مستمر في تكاليف المعيشة.

وفي قطاعات أخرى مثل الألبسة والأحذية، بلغت نسبة الزيادة في الأسعار 6,5% سنة 2024، وهي أقل من سنة 2023 (8,5%)، لكنها لا تزال ضمن النطاق المرتفع. كما سجلت أسعار الأثاث واللوازم المنزلية ارتفاعًا بنسبة 4,9%، فيما عرف قطاع الصحة والنظافة الشخصية انخفاضًا طفيفًا في معدل التضخم، حيث انتقل من 10,0% إلى 5,3%. أما قطاع السكن والرسوم المرتبطة به، فقد عرف بدوره استقرارًا نسبيًا، إذ سجل زيادة لا تتجاوز 1,3%، وهو ما يعكس تهدئة نسبية مقارنة بما سُجل خلال السنوات الماضية.

تجدر الإشارة إلى أن قطاع التعليم والثقافة والترفيه قد شهد هو الآخر تحولًا ملفتًا، إذ بعد ارتفاع بنسبة 12,7% سنة 2023، لم تتجاوز نسبة الزيادة في 2024 حدود 0,2%. ويعود هذا الانخفاض الكبير، حسب مراقبين، إلى الجمود في رسوم المؤسسات التعليمية والثقافية الخاصة، مقابل عزوف المواطن عن الإنفاق على هذه المجالات في ظل أولويات معيشية أكثر إلحاحًا. في الوقت ذاته، استمرت بعض المواد الأساسية في تسجيل اضطرابات حادة في أسعارها، مثل البطاطا التي تحوّلت من انخفاض كبير بنسبة -22,0% سنة 2023 إلى ارتفاع حاد بلغ +36,2% سنة 2024، ما يؤكد أن بعض المنتجات لا تزال تخضع لمنطق المضاربة أكثر من منطق العرض والطلب.

أما في قطاع النقل والاتصالات، فقد حافظت الأسعار على نوع من الاستقرار النسبي. فأسعار النقل ارتفعت بنسبة طفيفة لا تتجاوز 0,6%، في حين بقيت أسعار خدمات البريد والاتصالات شبه مستقرة للعام الرابع على التوالي. غير أن تكاليف صيانة السيارات وشراء قطع الغيار والإكسسوارات شهدت زيادات معتبرة تراوحت بين 9,7% و10,0%، مما يضيف عبئًا آخر على أصحاب السيارات، في ظل قدم الحظيرة الوطنية وندرة قطع الغيار الأصلية في السوق.

عند النظر إلى المسار العام للتضخم منذ 2001، فإن الأرقام تظهر بوضوح أن الأسعار في الجزائر قد تضاعفت تقريبًا ثلاث مرات، فيما لم تشهد الأجور نموًا متوازيًا أو مواكبًا لهذا الارتفاع، ما عمّق من الأزمة الاجتماعية التي يعيشها المواطن الجزائري، وأدى إلى تراجع واضح في مستوى المعيشة لدى فئات واسعة من السكان. وعلى الرغم من أن تباطؤ التضخم في 2024 يمثل بادرة إيجابية، إلا أنه يظل غير كافٍ ما لم يُترجم إلى إجراءات سياسية واقتصادية واقعية تضمن استقرار الأسعار، وتوفر الحماية للفئات الهشة، وتضع حدًا للفوضى التي تعاني منها السوق الوطنية في الكثير من المجالات.

إن السيطرة على التضخم في الجزائر لن تكون ممكنة عبر الحلول الظرفية أو الموسمية، بل تتطلب إصلاحات هيكلية شاملة تشمل تنويع الإنتاج المحلي، تحسين سلاسل التوزيع، محاربة المضاربة والاحتكار، وإرساء منظومة اقتصادية شفافة تربط بين الأسعار والقيمة الحقيقية للسلع والخدمات. فالتضخم ليس مجرد مؤشر اقتصادي، بل هو انعكاس حقيقي للسياسات العامة ومدى نجاعتها في تحسين الحياة اليومية للمواطن.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!

تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…