موتوا بغيظكم
“موتوا بغيظكم”… ليست مجرد عبارة بلاغية، بل تعبير دقيق عن واقع جيوسياسي جديد تشهده الجزائر، وسط تحوّل في مواقف كبرى العواصم العالمية التي بدأت تعيد النظر في خرائط النفوذ والشراكة. الجزائر التي لطالما كانت محط استهداف إعلامي وسياسي، تتحول اليوم إلى شريك استراتيجي تُبنى عليه حسابات مستقبلية في عالم يتجه نحو التعددية القطبية.
قبل نحو عامين، أوصت مؤسسة “راند كوربوريشن” الأمريكية – ذات التأثير الواسع على صناع القرار في واشنطن – بالإسراع في تعزيز العلاقات مع الجزائر، والابتعاد عن الرهان غير المجدي على المغرب. الدراسة ذاتها أشارت إلى تحفظ أمريكي صريح بشأن مستقبل الحكم في الرباط، وأبدت شكوكًا في جدوى الاستثمار السياسي في هذا المحور.
اليوم، يُعاد تأكيد تلك المقاربة من خلال دراسة جديدة صادرة عن مركز “واشنطن إنستيتوت”، أحد أقوى مراكز التفكير المرتبطة بدوائر القرار في البيت الأبيض. التقرير، في 30 صفحة، يتناول مسار العلاقات الجزائرية–الأمريكية، ويحلل امتداداتها مع الصين وروسيا، ويخلص إلى توصية مباشرة: على الولايات المتحدة تعزيز الشراكة مع الجزائر لمواكبة التحولات الدولية الجارية.
في جوهر هذه الرؤية المستجدة، يقف عامل أساسي: الاستقلالية السياسية للجزائر، ورفضها الدائم للانخراط في أحلاف التبعية. هذه الاستقلالية، إلى جانب موقعها الجغرافي وقوتها العسكرية، جعلت منها ركيزة أمنية مهمة، خاصة في غرب المتوسط ومنطقة الساحل. وقد عبّر أحد الدبلوماسيين الأمريكيين صراحة عن ذلك، مؤكدًا أن التعاون الأمني مع الجزائر أنقذ أرواحًا أمريكية.
هذه المكانة لم تأتِ بالصدفة، بل نتيجة تراكمات استراتيجية، نضجت في مسار من الثبات السيادي، في وقت انهارت فيه تحالفات هشّة قامت على الولاءات الظرفية. ومن هنا، فإن التحولات في الخطاب الأمريكي ليست مجاملة، بل اعتراف عملي بوزن الجزائر، خصوصًا مع صعود نظام عالمي جديد لم تعد فيه القطبية الأحادية كافية لضمان المصالح.
في المقابل، لا تزال بعض الأطراف الإقليمية، المعروفة بعدائها التاريخي للجزائر، تحاول التسويق لنفسها كمحور بديل، تارة باسم “الشراكة مع أمريكا” وتارة باسم “التحالف مع إسرائيل”، لكن هذه الادعاءات فقدت كل مصداقية، ولم تعد تجد منابر لها إلا في أوساط اليمين المتطرف داخل فرنسا، الذي ما زال يعاني من عقدة “الجزائر المستقلة”.
اللافت أن هذه الحملات الإعلامية والسياسية لم تعد تُزعج الجزائر، بل تدفعها إلى تعزيز جبهتها الداخلية، وإلى فتح آفاق تعاون بديل، كما يتجلى في خطوة الانضمام إلى منظمة “آسيان”، في سياق استراتيجي واضح يهدف إلى التحرر من أي وصاية اقتصادية أو سياسية أوروبية.
الدراسة الأمريكية الجديدة تُكمل ما بدأته “راند”، وتؤكد على نحو قاطع أن الجزائر رقم صعب في المعادلات الدولية، لا يمكن تجاوزه، ولا استبداله. وهذا ما يجعل كل محاولات التشويش، مهما علت أصواتها، بلا أثر فعلي في الواقع.
الجزائر اليوم تصنع موقعها بثقة، وتُحترم في المنتديات الدولية، وتُطلب كشريك، لا كطرف تابع. وهي، في ذلك، لا تنتظر اعترافًا من أحد، لأن الوقائع – والدراسات – تقول كل شيء.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…