‫الرئيسية‬ الأولى ريتايو… حنين استعماري بوجه انتخابي
الأولى - الوطني - مقالات - 18 يوليو، 2025

ريتايو… حنين استعماري بوجه انتخابي

ريتايو… حنين استعماري بوجه انتخابي
خرج وزير الداخلية الفرنسي ورئيس حزب “الجمهوريين” برونو ريتايو بتصريحات فجّة في مقابلة مع صحيفة لو فيغارو، يهاجم فيها الجزائر بعبارات صادمة لا تليق بدبلوماسي يتحدث باسم دولة يفترض أنها قطعت مع ماضيها الاستعماري. وصف ريتايو الجزائر بأنها تسعى إلى “إهانة فرنسا”، معتبرًا أن “الدبلوماسية القائمة على النوايا الحسنة قد فشلت”، وداعيًا إلى تبنّي “سياسة القوة” ضد الدولة الجزائرية، في لهجة لا يمكن قراءتها إلا كاستفزاز مباشر لشعب قدّم تضحيات جسامًا من أجل حريته وسيادته.

إن المتابع لتاريخ الخطاب السياسي الفرنسي تجاه الجزائر لا يُفاجأ كثيرًا بمثل هذه التصريحات. ففي كل مرة تواجه فيها فرنسا أزمات داخلية، تعود لتُسقِط أزمتها على الجزائر، سواء عبر اتهامها بأنها غير متعاونة في ملفات الهجرة أو بتحميلها مسؤولية ثقافية وأمنية لا علاقة لها بها. تصريح ريتايو ليس أكثر من حلقة جديدة في هذا المسلسل الطويل من التعالي الموروث، وهو يكشف بوضوح أن النخبة السياسية الفرنسية، أو جزءًا منها على الأقل، لم تتجاوز عقدة التفوق التي خلفها الاستعمار في مخيلتها السياسية.

قضية بوعلام صنصال، الكاتب الجزائري المعروف بمواقفه المثيرة للجدل والرافضة لثوابت الأمة الجزائرية، تحولت بقدرة قادر إلى “أزمة كرامة فرنسية”، وكأن الجزائر مطالبة بإخلاء سبيل أي شخص يُرضي مزاج النخبة الثقافية الباريسية. إن دولة ذات سيادة، كحال الجزائر، لا يمكنها ولا يجب أن تخضع لأي نوع من الابتزاز الدبلوماسي مهما كانت الذريعة، لأن في ذلك مسًّا مباشرًا باستقلالية مؤسساتها، وعلى رأسها القضاء. وما يُثير الاستغراب هو أن نفس فرنسا التي تطلب من العالم احترام “خصوصيتها الجمهورية”، لا تجد حرجًا في التدخل في الشؤون القضائية لدول أخرى حين يتعلق الأمر بمواطنيها أو بحلفائها الثقافيين.

الجزائر، وعلى الرغم من كل التحديات التي تواجهها داخليًا وخارجيًا، تبقى دولة قائمة على سيادة القرار، وتتّبع سياسة خارجية متزنة ومستقلة. وما تصريحات وزير الداخلية الفرنسي سوى محاولة مكشوفة لتحويل الجزائر إلى ورقة انتخابية رابحة في صراع الأجنحة داخل اليمين الفرنسي. هذا التكتيك ليس جديدًا، بل أصبح عادة سياسية لدى أغلب المرشحين الفرنسيين منذ عهد ساركوزي مرورًا بماكرون وحتى اليوم، حيث يتم تصوير الجزائر باعتبارها العدو السهل الذي يُستخدم لتوحيد الناخب الفرنسي القلق من الهجرة أو المتشبث بـ”الهيبة الاستعمارية” المفقودة.

التهديد بإلغاء اتفاقية 1968، التي تنظم الإقامة والتنقل للجزائريين في فرنسا، ليس سوى ورقة ضغط رمزية لا تعكس فهما حقيقيا للعلاقات بين البلدين. هذه الاتفاقية، التي تم التفاوض عليها بين دولتين ذات سيادة، ليست منّة من فرنسا، بل جاءت لتُؤطّر واقعًا بشريًا واقتصاديًا قائمًا على تبادل المصالح. ملايين الجزائريين الذين يعيشون في فرنسا ليسوا عبئًا، كما يروّج بعض الساسة هناك، بل هم جزء من نسيجها الاقتصادي والاجتماعي، ولهم إسهام فعّال في مختلف قطاعات العمل. إلغاء الاتفاقية لن يُعاقب الجزائر، بل سيتحول إلى أزمة داخلية فرنسية تمس التوازنات الديمغرافية والاجتماعية في المدن الكبرى.

مشكلة الخطاب الفرنسي الرسمي ليست مع الجزائر فقط، بل مع فكرة أن دولة نامية، كانت مستعمَرة بالأمس، تجرؤ على مخاطبة باريس بندّية واستقلال. لقد أثبتت الجزائر في السنوات الأخيرة أنها لم تعد دولة تابعة لأي محور، وأنها قادرة على رسم توجهاتها الجيوسياسية انطلاقًا من مصالحها الوطنية وحدها، وليس تبعًا لما تُمليه العواصم الغربية. علاقاتها الوثيقة مع روسيا، شراكاتها الاقتصادية مع الصين وتركيا، مواقفها الثابتة من القضية الفلسطينية، وانخراطها في الوساطات الإفريقية، كلها مؤشرات على دولة تُعيد تموقعها بثبات وهدوء في بيئة دولية متحولة.

وما يجب على فرنسا أن تفهمه هو أن الجزائر ليست في موقع الضعف، وأنها لا تُقايض سيادتها بأي شكل من الأشكال. الرد على تصريحات ريتايو لا يجب أن يكون إعلاميًا فقط، بل سياسيًا وديبلوماسيًا أيضًا. من حق الجزائر أن تُصدر موقفًا رسميًا يُحمّل باريس مسؤولية تصعيد لا تُبرره الوقائع ولا يخدم المصالح المشتركة. بل من واجبها أن ترفع الصوت عاليًا وتقول: لقد انتهى زمن الإملاء، وأن الكرامة الوطنية فوق كل اعتبار.

إن ما يجمع الجزائر وفرنسا كثير، من تاريخ مشترك – وإن كان دمويًا – إلى تشابك بشري واقتصادي وثقافي لا يُمكن تجاهله. ولكن كل ذلك لا يمكن أن يصمد على قاعدة الإهانة والتعالي. وإذا كانت فرنسا تسعى إلى علاقة صحية مع الجزائر، فعليها أولًا أن تُراجع خطابها، وأن تكفّ عن استغلال علاقتها بهذه الدولة العربية الإفريقية كأداة سياسية في معارك داخلية لا علاقة للجزائر بها.

لا أحد في الجزائر يرفض الحوار أو الشراكة، ولكن الشراكة لا تُبنى على التهديد. والجزائر، التي دفعت أغلى ثمن للحرية، لن تُفرط فيها من أجل إرضاء نزوة سياسية عابرة في باريس. السيادة ليست موضوع تفاوض، والكرامة ليست سلعة دبلوماسية، بل هي جوهر الأمة الجزائرية التي ما زالت تحفظ الذاكرة والحق وتعرف جيدًا كيف تُدافع عنهما.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!

تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…