كيف يهدد ريتايو بإعادة تشكيل العلاقات الفرنسية-الجزائرية؟
تتصاعد حدة التوترات بين فرنسا والجزائر، ويتوقع أن يشهد يوم الخميس المقبل لقاءً بين وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو والرئيس إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه، في خطوة تهدف إلى إعادة تقييم العلاقة الثنائية بين البلدين. ويأتي هذا اللقاء بعد أسابيع من التصعيد المتعمّد من قبل ريتايو، الذي شنّ انتقادات حادة لما أسماه “دبلوماسية النوايا الحسنة”، معتبراً أن سياسة التراخي تجاه الجزائر قد وصلت إلى حد الخطورة، وأن فرنسا بحاجة إلى تبنّي نهج أكثر صرامة تجاه ما وصفه بـ”الموقف العدائي” من الجانب الجزائري.
وقد أعد الوزير ملفاً متكاملاً يتضمن ثلاث مقترحات رئيسية، تجميد الأصول الجزائرية في فرنسا، إعادة النظر في سياسة التأشيرات الممنوحة للمواطنين الجزائريين، وتطبيق إجراءات عقابية ضد شركات الطيران الجزائرية العاملة على الأراضي الفرنسية. هذه الاجراءات تأتي رداً على رفض الجزائر استعادة مواطنيها الخاضعين لأوامر مغادرة الأراضي الفرنسية (OQTF)، بما في ذلك المتورّطين في أعمال إرهابية أو مخالفة أمنية.
تكمن خلف هذا التصعيد دوافع سياسية وأمنية مجتمعة، إذ تعرّضت فرنسا لهجوم بشخص يحمل جواز سفر جزائري في فبراير 2025 ضمن حادثة طعن، وكان وفق السلطات الفرنسية قد صدرت بحقه أوامر مغادرة لم يتم تنفيذها، مما أثار غضباً شعبياً واسعاً تجاه سياسة الهجرة وإعادة التوطين. ورغم أن الجزائر نفت أي نية لاستهداف فرنسا، متهمة اليمين الفرنسي بحملات تضليل، إلا أنها استمرت في سياسة التعسف الإداري بعرقلة الاتفاقيات المتعلقة بالطيران والتجارة، حيث أفادت تقارير أن الوكالة الجزائرية لاستيراد الحبوب استبعدت بشكل غير مباشر الموردين الفرنسيين من مناقصاتها منذ أكتوبر 2024.
على صعيد أوسع، يُعدّ هذا التوتر جزءاً من تصاعد الأزمة الدبلوماسية التي بدأت بتصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول علاقته بالتاريخ الجزائري، وصولاً إلى اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، مما دفع الجزائر إلى استدعاء سفيرها من باريس في ردّة فعل نادرة القوّة. ومع ذلك، تم التوصل في أبريل 2025 إلى ما وصفته باريس بـ”عودة العلاقات إلى طبيعتها” من خلال حوار مكثف استمر ساعتين ونصف، إلا أن وزير الداخلية ريتايو واصل خطابه التصعيدي داعياً لمراجعة اتفاق عام 1968 الذي يتيح تسهيلات كبيرة للجزائريين في فرنسا.
كما أن التمايز الداخلي بين الحكومة الفرنسية أصبح واضحاً، حيث يدعو رئيس الوزراء فرانسوا بايرو إلى الحفاظ على التوازن، في حين يضغط ريتايو، مدعوماً من حزب الجمهوريين، نحو سياسة هجومية صلبة يمكن وصفها بأنها “رد تدريجي” يشمل تجميد الاتفاقيات الاقتصادية وتعليق التسهيلات على مستوى الهجرة. ويقول ريتايو بصراحة إن فرنسا تصدر أكبر عدد من التأشيرات في أوروبا رغم أن الإطار التاريخي المشترك مع الجزائر لا يبرّر هذه الكمية، مضيفًا أن “70 % من الفرنسيين، من جميع الأطراف، يريدون وقف الهجرة غير المضبوطة”. ويرتبط هذا الموقف برغبة داخلية في تعزيز الاندماج والإندماج الثقافي، بعيدًا عن خطاب “الندم” أو الاعتذار عن التاريخ الاستعماري، وهو الموقف الذي يسعى لتقويته أمام ما يسميه “العداء المتزايد تجاه فرنسا” في الخطاب الرسمي الجزائري ووسائل التواصل الاجتماعي.
ومن الجدير بالذكر أن الأزمة الحالية لم تظهر فجأة، بل هي ثمرة تراكمات تاريخية وجيوسياسية تشمل آثار الحرب الاستعمارية التي استمرت بين 1954 و1962، والإرث العنيف الذي خلفه ذلك، فضلاً عن القضايا المعاصرة مثل النفوذ الفرنسي المتراجع في السوق الجزائرية، واستغلال الجزائر لصراع الصحراء الغربية لخدمة مصالحها الجغرافية والسياسية.
يبقى في نهاية المطاف أن نرى إن كان اللقاء القادم سيؤدي إلى تصعيد خطير أو الى تفاهمات جديدة، خصوصاً أن ماكرون يبدو مضغوطًا من الداخل، فهو يواجه تراجعًا في مؤيديه ويبحث عن توازن بين الحفاظ على المصالح الاستراتيجية والتجاوب مع المطالب التي يرفعها ريتايو، بينما الجزائر تستمر في دفاعها عن سيادتها، حتى لو كان ذلك عبر رسالة تحذيرية لباريس، مفادها أنها لن تتراجع عن قرارها بعدم استرجاع بعض مواطنيها.
بهذا، تشكّل هذه الأزمة منعطفاً جديدًا في العلاقات الفرنسية-الجزائرية، التي تظل مرهونة بتاريخ مؤلم تناسله الأجيال، ومصالح متشابكة في الأمن والهجرة والطاقة والتجارة. والمرة هذه، كما في المرات السابقة، يبدو أن أي تحوّل في التقارب أو التصعيد سيترك بصمة مهمة على مستقبل العلاقات بين الدولة الأوروبية والقوة المنشودة في شمال إفريقيا.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اليمين المتطرف يهاجم الطلبة الجزائريين في فرنسا!
تعيش فرنسا منذ أسابيع على وقع جدل جديد أثارته بعض الأوساط اليمينية المتطرفة التي وجّهت سها…