‫الرئيسية‬ في الواجهة اقتصاد الجزائر الرقمية 2030… إرادة سياسية تواجه ذهنيات متخلفة!

الجزائر الرقمية 2030… إرادة سياسية تواجه ذهنيات متخلفة!

الجزائر الرقمية 2030... إرادة سياسية تواجه ذهنيات متخلفة!
تعيش الجزائر في ديناميكية جديدة في علاقتها بالمستقبل، ولعلّ أحد أبرز معالم هذه الديناميكية هو مشروع “الجزائر الرقمية 2030″، الذي تسعى من خلاله الدولة إلى إحداث نقلة نوعية في الأداء العمومي، وتعزيز الشفافية، ومواكبة التحولات التكنولوجية الكبرى التي باتت اليوم ركيزة أساسية لأي اقتصاد ناجح أو حوكمة فعالة. هذا المشروع لم يعد مجرد شعار، بل تحوّل إلى إطار استراتيجي واضح تتبناه الدولة على أعلى المستويات، مدعومًا بإرادة سياسية معلنة، وتمويلات معتبرة، وشراكات تقنية دولية، في مقدمتها الشراكة مع شركة “هواوي” الصينية لبناء مراكز بيانات سيادية في الجزائر العاصمة والبليدة.

في هذا السياق، أعلن وزير الأشغال العمومية لخضر رخروخ عن إطلاق منصة رقمية جديدة لمتابعة المشاريع العمومية في الزمن الحقيقي، وهي أداة محورية ضمن هذا التوجه الرقمي العام. المنصة التي تطورها “الصندوق الوطني للتجهيز من أجل التنمية” (CNED) تهدف إلى توفير لوحات قيادة رقمية فورية، تربط بين مختلف الفاعلين المؤسسيين، مثل الوزارات، المهندسين، المراقبين الماليين، والسلطات المحلية، وتسمح برصد تقدم المشاريع، واكتشاف التأخيرات، وضبط التجاوزات المالية، وكل ذلك في الوقت الفعلي. ليست الفكرة في ذاتها جديدة من حيث المفهوم، لكن الجديد هو وجود نية حقيقية لربط هذه المنصة بالمساءلة الحقيقية، وربط النفقات بالتقدم الميداني، وربط المسؤولية بالنتائج.

مشروع “الجزائر الرقمية 2030” يندرج ضمن خطة وطنية شاملة أطلقتها رئاسة الجمهورية بعنوان “التحول الرقمي الوطني 2025-2030″، والتي تشمل خمسة محاور استراتيجية: البنية التحتية الرقمية، الكفاءات البشرية، الحوكمة الرقمية، الاقتصاد الرقمي، والمجتمع الرقمي. وتضم الخطة أكثر من 25 هدفًا استراتيجيًا واضحًا، ضمنها أكثر من 500 مشروع رقمي مسجل للتنفيذ بين عامي 2025 و2026، يخص 75% منها تحسين الخدمات العمومية. هذه المعطيات تؤشر إلى جدية سياسية وإدارية في التعامل مع الرقمنة، بعكس ما كان يُنظر إليها سابقًا على أنها مجرد تجميل شكلي لمؤسسات عتيقة.

غير أن الطريق نحو الرقمنة الحقيقية ليس معبّدًا بالكامل. إذ تواجه الجزائر تحديات موضوعية لا يمكن تجاهلها، لعل أولها يتمثل في مقاومة البيروقراطية الإدارية العميقة، والتي ما تزال في الكثير من إداراتها المحلية تتمسك بالوثيقة الورقية والختم اليدوي والتوقيع التقليدي كوسائل إثبات للشرعية الإدارية. هذه الذهنية تحتاج إلى تفكيك جذري من خلال التكوين، والتحفيز، وربما التغيير المؤسساتي الجذري. أما التحدي الثاني فهو نقص الكفاءات الرقمية المؤهلة، خاصة في الإدارة المحلية، حيث لا تزال معظم الولايات تعاني من ضعف في المهارات التقنية، وهو ما قد يعرقل التشغيل السليم للمنصات الرقمية الجديدة.

أما التحدي الثالث، والذي لا يقل أهمية، فيتمثل في غياب التشغيل البيني بين الأنظمة الرقمية للقطاعات المختلفة، وهو ما يخلق جزراً معلوماتية تعيق التنسيق وتضرب مصداقية البيانات. كذلك هناك مقاومة ضمنية من بعض الفاعلين الذين تعوّدوا على الغموض الإداري والفساد المغطى بالورق، لأن الرقمنة ستجعل كل شيء قابلًا للتتبع والمحاسبة، وهو ما لا يصب في صالح شبكات المصالح التي استفادت لعقود من غياب الشفافية.

ورغم هذه التحديات، فإن مؤشرات النجاح موجودة على أرض الواقع. الجزائر نجحت في رقمنة العديد من الخدمات الحيوية مثل شهادات الحالة المدنية، الوثائق البيومترية، وتوسيع ربط الجامعات والمؤسسات بالأنترنت عالي التدفق. كما أن التوجه نحو إنشاء مراكز بيانات وطنية سيادية يعكس وعيًا رسميًا بأهمية حماية المعطيات الحساسة والسيادية للدولة، بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الخدمات السحابية الخارجية.

النقلة الرقمية في الجزائر اليوم ليست خيارًا ترفيهيًا ولا مشروعًا نخبويًا، بل ضرورة هيكلية تفرضها الظروف المحلية والدولية. فإذا كانت الدولة تريد محاربة الفساد، وتحقيق الحوكمة الرشيدة، وتحفيز الاقتصاد الوطني، فعليها أن تجعل الرقمنة أداة مركزية في التخطيط، والمتابعة، والمحاسبة. والمواطن أيضًا يجب أن يكون شريكًا في هذه المعركة، لا متلقيًا سلبيًا فقط، بل مستفيدًا ومطالبًا بخدمات رقمية نوعية تليق ببلد يمتلك القدرات المالية والبشرية لإنجاز هذا التحول.

إن مشروع “الجزائر الرقمية 2030” يمكن أن يتحول إلى قصة نجاح وطنية، شرط أن يُنفذ بإرادة لا تتراجع، وأن يُحمى من قوى الشد العكسي، وأن يُسند إلى كفاءات صادقة تؤمن بأن التحول الرقمي هو طريق الجزائر نحو الشفافية والفعالية والحداثة. نجاح المشروع لن يكون فقط مكسبًا تقنيًا، بل سيكون إعلانًا بأن الجزائر عادت إلى ركب الأمم التي تراهن على المستقبل.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

القضاء يطوي صفحة ساركوزي.. أول رئيس فرنسي يدخل السجن يوم 21 أكتوبر

يدخل نيكولا ساركوزي التاريخ من أوسع أبوابه، لا كرجل دولة استثنائي كما أراد لنفسه ذات يوم، …