‫الرئيسية‬ الأولى مؤشرات على تحرك التيار المتشدد… هل يعود الإرهاب إلى الجزائر؟
الأولى - مقالات - 3 أغسطس، 2025

مؤشرات على تحرك التيار المتشدد… هل يعود الإرهاب إلى الجزائر؟

مؤشرات على تحرك التيار المتشدد… هل يعود الإرهاب إلى الجزائر؟
لستُ من الذين يعتبرون أن حادثة عين الفوارة مجرد عمل معزول، بل على العكس تمامًا. فمن وجهة نظري، ما جرى كان مدروسًا بعناية ويُحتمل أن يكون نتاج توجيه من أطراف خارجية تسعى إلى زعزعة الاستقرار في الجزائر، لا سيما تلك المرتبطة بالدوائر الاستعمارية القديمة التي ما زالت تراهن على اختراق الجبهة الداخلية. ويأتي الحكم الصادر عن القضاء الجزائري، بالسجن عشر سنوات وغرامة مالية ضد الفاعل، كردّ حازم ورسالة واضحة أن أمن البلاد خط أحمر.

ما يثير الانتباه هو تكاثر المؤشرات القادمة من التيار الديني المتشدد، وهو ذاته الذي تورط في إشعال فتيل الأزمة الأمنية في تسعينيات القرن الماضي. بدءًا من إعادة إنتاج خطاب التحريم الشامل – كما في بعض الدعوات إلى إلغاء الموسيقى من الفضاءات العامة – وكأن المرجعيات الكبرى في التاريخ الإسلامي لم تُدرك أحكام هذا الفن من منظور علمي وشرعي متوازن، إلى الجدل الذي أُثير حول لباس الشورت، والذي يقدَّم أحيانًا باعتباره مظهرًا من مظاهر الانحراف، رغم أنه أمر شائع حتى في بلدان تعتبر منبعًا لهذا التيار نفسه.

من المؤسف أن بعض الخطابات التي جرى الحد منها في بلدانها الأصلية، أصبحت تُصدّر إلى الجزائر، بل وتُطبّق بتشدد أكبر. هذا ما نلاحظه في أنشطة توعوية وتعليمية تُنظم أحيانًا في أماكن مغلقة تحت غطاء تحفيظ القرآن الكريم، لكن تتخذ من ذلك غطاء لغرس خطاب ديني انغلاقي، يزرع الانفصال الذهني عن المجتمع، ويمهد تدريجيًا لبناء منظومة فكرية تؤسس للتكفير والإقصاء.

أما على المستوى التنظيمي، فبعض الأطراف التي تنتمي إلى التيارات الإخوانية، المعروفة بخطابها السياسي ذي المرجعية العابرة للحدود، تعمل على إعادة التموقع داخل المجتمع الجزائري. وقد أشار المفكر عباس محمود العقاد، في عدد من كتاباته، إلى أن نشأة تنظيم الإخوان المسلمين سنة 1928 لم تكن بمعزل عن المناخ الاستعماري السائد آنذاك، بل جاءت – حسب رأيه – في إطار مشروع غير بريء استثمرت فيه قوى أجنبية، وعلى رأسها بريطانيا، لتأسيس حركة دينية منظمة تُستخدم كأداة لاختراق المجتمعات الإسلامية من الداخل، عبر نشر خطاب ديني مسيّس يُربك الدولة الوطنية الناشئة. ومهما اختلفت الآراء حول شخصية حسن البنا، فإن المؤكد تاريخيًا أن التنظيم الذي أسسه تبنّى منذ البداية مناهج تعبئة شعبوية، ونشاطًا هرميًا محكمًا، وخطابًا مزدوجًا سمح له بالتمدد داخل الأوساط الشعبية والمؤسسات، وهو ما جعله لاحقًا نقطة ارتكاز في استراتيجيات النفوذ الإقليمي والدولي، وليس فقط تيارًا دعويًا محليًا.

من المظاهر المقلقة أيضًا، عودة الخطاب الذي يُعيد الجدل حول المرأة ولباسها ودورها، إلى واجهة النقاش الديني، رغم أن المرجعيات الإسلامية المعاصرة، وفي مقدمتها مؤسسة الأزهر الشريف، أكدت أكثر من مرة أن مسائل مثل الحجاب والنقاب لا يمكن حسمها في اتجاه الإلزام القطعي، بل يجب مقاربتها باعتبارها جزءًا من العادات والتقاليد المجتمعية، لا من ثوابت العقيدة. وقد عبر عن ذلك شخصيات فكرية معروفة، منها الراحل جمال البنا، والشيخ مصطفى راشد، اللذان دعَوَا إلى إعادة قراءة النصوص في ضوء الواقع والعقل، بعيدًا عن الجمود.

بوصفي باحثًا في الشأن الديني والاجتماعي، ألاحظ أن الجزائر كثيرًا ما تتأثر بالأفكار الدينية المستوردة أكثر من البلدان التي أنتجتها. والأسوأ أن البعض يذهب إلى التشدّد والمغالاة في تطبيق رؤى لم تعد مقبولة حتى في موطنها الأصلي، وكأن الجزائري صار وصيًّا على المذهب أكثر من أصحابه. السعودية، على سبيل المثال، تخلّت عن عدد من الشروط القديمة المرتبطة بالمرافق الدينية والاجتماعية، بينما لا تزال بعض الأصوات عندنا تُصرّ على الدفاع عنها وكأنها جزء لا يتجزأ من الدين.

من بين الظواهر التي تستحق التوقف عندها، صدور فتاوى مثيرة للجدل من شخصيات دينية محلية تتبنى مذاهب غير معتمدة رسميًا في الجزائر، وتخالف المرجعية الوطنية المتمثلة في المذهب المالكي الوسطي. هذه الفتاوى – مثل اشتراط وجود محرم للمرأة في أبسط تنقلاتها – تطرح إشكالية تتعلق باحترام السيادة الدينية للدولة، وتثير تساؤلات حول غياب ضبط المشهد الدعوي، في وقت تنظم فيه أغلب الدول الإسلامية عملية الإفتاء ضمن أطر مؤسسية واضحة. فهل يُعقل أن تستمر هذه الفوضى في الجزائر، بعدما عشنا آثارها الكارثية في الماضي؟

تجدر الإشارة إلى أن المرجعية الدينية الجزائرية أثبتت تميزها في ملفات عدة، أبرزها تمكين المرأة من تولي مناصب عُليا في القضاء، وهو أمر لا يزال موضع جدل في بلدان إسلامية كثيرة. وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على أن النموذج الجزائري في التدين يُمثل توازنًا فريدًا بين الأصالة والانفتاح، بين الانتماء الديني والحداثة المؤسسية.

الحركات الدينية ذات الطابع السياسي التي عرفت الجزائر امتداداتها، أثبتت من خلال التجربة أنها قادرة على التكيف السريع، لكنها أيضًا تنطوي على قابلية خطيرة للتحول نحو العنف عندما يُسحب منها الغطاء السياسي أو يُضيَّق عليها مجتمعيًا. ومن هذا المنطلق، فإن التحذير من إعادة بعثها ليس مجرد تخوف، بل ضرورة وطنية، لأن ثمن التراخي سيكون باهظًا، والتجربة أثبتت أن الأمن والاستقرار لا يتحققان إلا باليقظة المستمرة والحزم المؤسسي.


اكتشاف المزيد من المؤشر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق

‫شاهد أيضًا‬

الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء

صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…