مقري.. “بومارطو” تاريخ الجزائر
يعود مقري إلى الواجهة بانتقادات حادة وتصنيفات خطيرة جداً على المجتمع الجزائري، في الوقت الذي كنا ننتظر منه موقفاً من لقاء التطبيع بين وزير خارجية سورية الشيباني ونظيره الإسرائيلي في باريس. فإذا بالرئيس السابق لحركة “حمس”، الطبيب عبد الرزاق مقري، يخرج علينا بنقاش آخر موجَّه للتشويه التاريخي الجزائري، حيث وصف مقررات مؤتمر الصومام بأنها جاءت لتناقض بيان أول نوفمبر الذي أكد على الهوية الدينية والحضارية الإسلامية للجزائر. وهذه قراءة خاطئة ومحاولة إخوانجية لتحريف تاريخ الجزائر، تماماً كما فعل سابقاً عندما زوّر بيان أول نوفمبر وأدخل عليه تسمية “الباديسية النوفمبرية” في محاولة لأسلمة الثورة الجزائرية وأخونتها. هذا التيار اللاوطني يبحث عن الاستحواذ على تاريخ الجزائر وثورتها ليبني لنفسه عمقاً تاريخياً ويوجد له موطئ قدم في جزائر الشهداء، بينما هم في الأصل يعتبرون الوطن مجرد “حفنة تراب عفنة”، كما صرّح أحد رموز حركة الإخوان التي أسسها حسن البنا الساعاتي سنة 1928 بإيعاز من الحركة الماسونية العالمية، وهو ما كتبه عباس محمود العقاد في الصحف المصرية.
مقري يتهم كل من يتحدث عن مؤتمر الصومام بالعلمانية، ما يعني أن الرئيس تبون كذلك “علماني”، لأنه أصدر بياناً رئاسياً بمناسبة احتفالات 20 أوت، ذكرى مؤتمر الصومام والهجوم القسنطيني. والحقيقة أن مؤتمر الصومام جاء لضرورات تنظيمية بعد عامين من اندلاع الثورة الجزائرية، التي توسعت إلى كل مناطق الوطن، وكان لا بد من تنظيمها وتحديد المناطق والرتب العسكرية وغير ذلك من القرارات المصيرية.
مؤتمر الصومام مرحلة من مراحل تاريخ الجزائر، ووصفه بما كتبه الطبيب مقري إساءة بالغة للثورة الجزائرية لا تضاهيها إساءة. ولا أدري لماذا تذكرت أحد مؤسسي حزب نجم شمال إفريقيا، الذي كان له الدور الأساسي في إقناع مصالي الحاج بالانضمام إلى النضال النقابي ثم الحزبي وصولاً إلى تأسيس حزب نجم شمال إفريقيا، وهو الحزب الذي تطور لاحقاً وصولاً إلى أول نوفمبر وخرجت من رحمه الثورة التحريرية. ذلك الرجل هو عبد القادر حاج علي، الذي يعود له شرف تأسيس نجم شمال إفريقيا، وكان مناضلاً في الحزب الشيوعي الفرنسي. وهو من صاغ خطاب مصالي الحاج في مؤتمر بروكسل، حيث أعلن ضرورة استقلال الجزائر.
حركة استقلال المستعمرات لم يكن للتيار الإسلامي أي دور فيها، بل كانت بعيدة كل البعد عن تفكيره. وأول من طرحها على الأممية الشيوعية هو هوشي منه، المناضل الفيتنامي الذي كان يدرس في باريس على علاقة بالمناضلين الجزائريين. وبعدما تم قبول مبدأ استقلال المستعمرات، عاد إلى بلده وأسس الحزب الشيوعي الفيتنامي، الذي بدأ حرب التحرير في فيتنام.
أما المناضلون الجزائريون فواصلوا نضالهم السياسي السلمي من أجل الاستقلال، إلى أن وصل الوضع إلى إعلان تأسيس جبهة التحرير الوطني التي فجرت ثورة نوفمبر. وهؤلاء أنفسهم هم من نظموا مؤتمر الصومام، الذي أعطى للثورة تنظيماً يليق بها حتى تستمر في مسارها نحو الاستقلال. جبهة التحرير الوطني جمعت مناضلين من اتجاهات سياسية متعددة، لكن هدفهم كان واحداً، الاستقلال.
محاولة عبد الرزاق مقري الحديث عن تعارض بين بيان نوفمبر ومقررات الصومام وكأن الأمر صراع بين مشروعه الإسلاموي الحالم وبين مقررات الصومام “الناكرة للإسلام”، ليست سوى كذب وافتراء على تاريخ الجزائر وشخصياته المؤسسة. ما كتبه مقري ليس جديداً، بل هو استمرار لمحاولاته سرقة تاريخ الجزائر أمام مرأى ومسمع السلطات، ونسبته دون خجل إلى حركة الإخوان المسلمين. وهذا يدخل في إطار حروب الاستعمار من الجيل الرابع والخامس، ويُعد عملية سطو خطيرة لا مثيل لها في تاريخ الشعوب.
محاولات الطبيب لتزييف التاريخ ليست الأولى من نوعها، ويبدو أنه مكلف بمهمة للإساءة إلى تاريخ الشعب الجزائري. أما حكاية “العلمانية”، فلا أفهم استعمالها وكأنها تهمة ضد كل من يؤمن بمبدأ حيادية الدولة، وهو المبدأ الذي تطبقه كل دول العالم تقريباً باستثناء إمارة أفغانستان ودولة الفاتيكان وربما دولة أو اثنتين أخريين. حتى تركيا، رغم تلاعبها بورقة الإخوان لإحياء الخلافة العثمانية والسيطرة على بلداننا، ما تزال دولة علمانية إلى اليوم. فالعلمانية يا دكتور مقري هي نظام سياسي تطبقه 99% من دول العالم، وليست تهمة كما تظن.
إعادة قراءة التاريخ بتزوير إيديولوجي هي حرب حقيقية ضد الشعب الجزائري. خرجة مقري ليست بريئة، وهناك تحركات للتيار الديني، سواء المتطرف منه أو السياسي، في الجزائر، مما ينذر بمحاولات للعودة إلى سنوات الإرهاب وإدخال الجزائر في دوامة قد لا تخرج منها سالمة هذه المرة.
عبد الرزاق مقري لا يهمه التنديد بتطبيع إسلاميي سوريا مع إسرائيل، بقدر ما يهمه شيطنة الثورة وتحريف تاريخ الجزائر ونسبه إلى التيار الديني، عسى أن يقنع الأغبياء بشرعية مشروعه.
اكتشاف المزيد من المؤشر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
الجزائر لا تُنسى… ومن يتجاهلها يُخطئ في حقّ الوفاء
صرّح ممثل حركة “حماس” في الجزائر، للإذاعة الجزائرية الدولية، بشأن التصريحات ال…